وَلَمَّا كَانَتِ اللَّعْنَةُ تَسْتَمِرُّ بَعْدَ انْعِدَامِ الْمَلْعُونِ إِذَا اشْتَهَرَ بَيْنَ النَّاسِ بِسُوءٍ لَمْ يَكُنْ تَوْقِيتُهَا بِالْأَبَدِ مُقَيِّدًا حَيَاةَ الْمَلْعُونِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِإِبْلِيسَ غِنًى بِقَوْلِهِ تَعَالَى إِلى يَوْمِ
الدِّينِ
عَنْ أَنْ يَسْأَلَ الْإِبْقَاءَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ لِيَكُونَ مَصْدَرَ الشُّرُورِ لِلنُّفُوسِ قَضَاءٌ لِمَا جُبِلَ عَلَيْهِ مِنْ بَثِّ الْخُبْثِ فَكَانَ بِذَلِكَ حَرِيصًا عَلَى دَوَامِهَا بِمَا يُوَجَّهُ إِلَيْهِ مِنَ اللَّعْنَةِ، فَسَأَلَ النَّظِرَةَ حُبًّا لِلْبَقَاءِ لِمَا فِي الْبَقَاءِ مِنَ اسْتِمْرَارِ عَمَلِهِ.
وَخَاطَبَ اللَّهَ بِصِفَةِ الرُّبُوبِيَّةِ تَخَضُّعًا وَحَثًّا عَلَى الْإِجَابَةِ، وَالْفَاءُ فِي فَأَنْظِرْنِي فَاءُ التَّفْرِيعِ. فَرَّعَ السُّؤَالَ عَنِ الْإِخْرَاجِ.
وَوَسَّطَ النِّدَاءَ بَيْنَ ذَلِكَ.
وَذُكِرَتْ هَذِهِ الْحَالَةُ مِنْ أَوْصَافِ نَفْسِيَّتِهِ بَعْثًا لِكَرَاهِيَتِهِ فِي نُفُوسِ الْبَشَرِ الَّذِينَ يَرَوْنَ أَنَّ حَقَّ النَّفْسِ الْأَبِيَّةِ أَنْ تَأْنَفَ مِنَ الْحَيَاةِ الذَّمِيمَةِ الْمُحَقَّرَةِ، وَذَلِكَ شَأْنُ الْعَرَبِ، فَإِذَا عَلِمُوا هَذَا الْحَوْصَ مِنْ حَالِ إِبْلِيسَ أَبْغَضُوهُ وَاحْتَقَرُوهُ فَلَمْ يَرْضَوْا بِكُلِّ عَمَلٍ يُنْسَبُ إِلَيْهِ.
وَالْإِنْظَارُ: الْإِمْهَالُ وَالتَّأْخِيرُ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٨٠] . وَالْمُرَادُ تَأْخِيرُ إِمَاتَتِهِ لِأَنَّ الإنظار لَا يكرن لِلذَّاتِ، فَتَعَيَّنَ أَنَّهُ لِبَعْضِ أَحْوَالِهَا وَهُوَ الْمَوْتُ بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ.
وَعَبَّرَ عَنْ يَوْمِ الدِّينِ بِ يَوْمِ يُبْعَثُونَ تَمْهِيدًا لِمَا عَقَدَ عَلَيْهِ الْعَزْمَ مِنْ إِغْوَاءِ الْبَشَرِ، فَأَرَادَ الْإِنْظَارَ إِلَى آخِرِ مُدَّةِ وُجُودِ نَوْعِ الْإِنْسَانِ فِي الدُّنْيَا. وَخَلَقَ اللَّهُ فِيهِ حُبَّ النَّظِرَةِ الَّتِي قَدَّرَهَا اللَّهُ لَهُ وَخَلَقَهُ لِأَجْلِهَا وَأَجْلِ آثَارِهَا لِيَحْمِلَ أَوْزَارَ تَبِعَةِ ذَلِكَ بِسَبَبِ كَسْبِهِ وَاخْتِيَارِهِ تِلْكَ الْحَالَةَ، فَإِنَّ ذَلِكَ الْكَسْبَ وَالِاخْتِيَارَ هُوَ الَّذِي يَجْعَلُهُ مُلَائِمًا لِمَا خُلِقَ لَهُ، كَمَا أَوْمَأَ إِلَى ذَلِكَ الْبَيَانُ النَّبَوِيُّ
بِقَوْلِهِ: «كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ»
.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute