وَهَذِهِ صِيغَةُ تَوْلِيَةٍ جَامِعَةٌ لِكُلِّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ وَلِيُّ الْأَمْرِ مِنَ الْخِصَالِ، لِأَنَّ الْمَكَانَةَ تَقْتَضِي الْعِلْمَ وَالْقُدْرَةَ إِذْ بِالْعِلْمِ يَتَمَكَّنُ مِنْ مَعْرِفَةِ الْخَيْرِ وَالْقَصْدِ إِلَيْهِ، وَبِالْقُدْرَةِ يَسْتَطِيعُ فِعْلَ مَا يَبْدُو لَهُ مِنَ الْخَيْرِ وَالْأَمَانَةُ تَسْتَدْعِي الْحِكْمَةَ وَالْعَدَالَةَ، إِذْ بالحكمة يوثر الْأَفْعَال الصَّالِحَة وَيتْرك الشَّهَوَات الْبَاطِلَةَ، وَبِالْعَدَالَةِ يُوصِلُ الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا. وَهَذَا التَّنْوِيهُ بِشَأْنِهِ وَالثَّنَاءُ عَلَيْهِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّهُ يُرِيدُ الِاسْتِعَانَةَ بِهِ فِي أُمُورِ مَمْلَكَتِهِ وَبِأَنْ يَقْتَرِحَ عَلَيْهِ مَا يَرْجُو مِنْ خَيْرٍ، فَلِذَلِكَ أَجَابَهُ بِقَوْلِهِ: اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ.
وَجُمْلَةُ قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ حِكَايَةُ جَوَابِهِ لِكَلَامِ الْمَلِكِ وَلِذَلِكَ فُصِّلَتْ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُحَاوَرَاتِ.
وعَلى هُنَا لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ، وَهُوَ التَّصَرُّفُ وَالتَّمَكُّنُ، أَيِ اجْعَلْنِي مُتَصَرِّفًا فِي خَزَائِنِ الْأَرْضِ.
وخَزائِنِ جَمْعُ خِزَانَةٍ- بِكَسْرِ الْخَاءِ-، أَيِ الْبَيْتُ الَّذِي يُخْتَزَنُ فِيهِ الْحُبُوبُ وَالْأَمْوَالُ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْأَرْضِ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ، وَهِيَ الْأَرْضُ الْمَعْهُودَةُ لَهُمْ، أَيْ أَرْضُ مِصْرَ.
وَالْمُرَادُ مِنْ خَزائِنِ الْأَرْضِ خَزَائِنُ كَانَتْ مَوْجُودَةً، وَهِيَ خَزَائِنُ الْأَمْوَالِ إِذْ لَا يَخْلُو سُلْطَانٌ مِنْ خَزَائِنَ مَعْدُودَةٍ لِنَوَائِبِ بِلَادِهِ لَا الْخَزَائِنُ الَّتِي زِيدَتْ مِنْ بَعْدُ لِخَزْنِ الْأَقْوَاتِ اسْتِعْدَادًا لِلسَّنَوَاتِ الْمُعَبَّرِ عَنْهَا بِقَوْلِهِ: مِمَّا تُحْصِنُونَ [سُورَة يُوسُف: ٤٨] .
وَاقْتِرَاحُ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- ذَلِكَ إِعْدَادٌ لِنَفْسِهِ لِلْقِيَامِ بِمَصَالِحِ الْأُمَّةِ عَلَى سُنَّةِ أَهْلِ الْفَضْلِ وَالْكَمَالِ مِنِ ارتياح نُفُوسهم للْعلم فِي الْمَصَالِحِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَسْأَلْ مَالًا لِنَفْسِهِ وَلَا عَرَضًا مِنْ مَتَاع الدُّنْيَا، وَلكنه سَأَلَ أَنْ يُوَلِّيَهُ خَزَائِنَ الْمَمْلَكَةِ لِيَحْفَظَ الْأَمْوَالَ وَيَعْدِلَ فِي تَوْزِيعِهَا وَيَرْفُقَ بِالْأُمَّةِ فِي جَمْعِهَا وَإِبْلَاغِهَا لِمَحَالِّهَا.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute