وَالْمَثْوَى: حَقِيقَتُهُ الْمَحَلُّ الَّذِي يثوي إِلَيْهِ الْمَرْءُ، أَيْ يَرْجِعُ إِلَيْهِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٢٨] . وَهُوَ هُنَا كِنَايَةٌ عَنْ حَالِ الْإِقَامَةِ عِنْدَهُمَا لِأَنَّ الْمَرْءَ يُثَوَى إِلَى مَنْزِلِ إِقَامَتِهِ.
فَالْمَعْنَى: اجْعَلِي إِقَامَتَهُ عِنْدَكِ كَرِيمَةً، أَيْ كَامِلَةً فِي نَوْعِهَا. أَرَادَ أَنْ يُجْعَلَ الْإِحْسَانُ إِلَيْهِ سَبَبًا فِي اجْتِلَابِ مَحَبَّتِهِ إِيَّاهُمَا وَنُصْحِهِ لَهُمَا فَيَنْفَعُهُمَا، أَوْ يَتَّخِذَانِهِ وَلَدًا فَيَبَرُّ بِهِمَا وَذَلِكَ أَشَدُّ تَقْرِيبًا. وَلَعَلَّهُ كَانَ آيِسًا مِنْ وِلَادَةِ زَوْجِهِ. وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِحُسْنِ تَفَرُّسِهِ فِي مَلَامِحِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- الْمُؤْذِنَةِ بِالْكَمَالِ، وَكَيْفَ لَا يَكُونُ رَجُلًا ذَا فِرَاسَةٍ وَقَدْ جَعَلَهُ الْمَلِكُ رَئِيسَ شُرْطَتِهِ، فَقَدْ كَانَ الْمُلُوكُ أَهْلَ حَذَرٍ فَلَا يُوَلُّونَ أُمُورَهُمْ غَيْرَ الْأَكْفَاءِ.
وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ إِنْ أَجْرَيْنَا اسْمَ الْإِشَارَةِ عَلَى قِيَاسِ كَثِيرٍ مِنْ أَمْثَالِهِ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٤٣] كَانَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى التَّمْكِينِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ تَنْوِيهًا بِأَنَّ ذَلِكَ التَّمْكِينَ بَلَغَ غَايَةَ مَا يُطْلَبُ مِنْ نَوْعِهِ بِحَيْثُ لَوْ أُرِيدَ تَشْبِيهُهُ بِتَمْكِينٍ أَتَمَّ مِنْهُ لَمَا كَانَ إِلَّا أَنْ يُشَبَّهَ بِنَفْسِهِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِ النَّابِغَةِ:
وَالسَّفَاهَةُ كَاسْمِهَا
فَيَكُونُ الْكَافُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ. وَالتَّقْدِيرُ: مَكَّنَا لِيُوسُفَ تَمْكِينًا كَذَلِكَ التَّمْكِينِ.
وَإِنْ أَجْرَيْنَا عَلَى مَا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ كَانَتْ لِحَاصِلِ الْمَذْكُورِ آنِفًا، وَهُوَ مَا يُفِيدُهُ عُثُورُ السَّيَّارَةِ عَلَيْهِ مِنْ أَنَّهُ إِنْجَاءٌ لَهُ عَجِيب الْحُصُول بمصادفة عَدَمِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute