رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَا جَرَمَ كَانَتْ قُوَّةُ الْكَلَامِ مُؤْذِنَةً بِوُجُوبِ تَمَحُّضِ الْمُسْلِمِينَ لِلْغَزْوِ. وَإِذْ قَدْ كَانَ مِنْ مَقَاصِدِ الْإِسْلَامِ بَثُّ عُلُومِهِ وَآدَابِهِ بَيْنَ الْأُمَّةِ وَتَكْوِينُ جَمَاعَاتٍ قَائِمَةٍ بِعِلْمِ الدِّينِ وَتَثْقِيفِ أَذْهَانِ الْمُسْلِمِينَ كَيْ تَصْلُحَ سِيَاسَةُ الْأُمَّةِ عَلَى مَا قَصَدَهُ الدِّينُ مِنْهَا، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ عَقُبَ التَّحْرِيضُ عَلَى الْجِهَادِ بِمَا يُبَيِّنُ أَنْ لَيْسَ مِنَ الْمَصْلَحَةِ تَمَحُّضُ الْمُسْلِمِينَ كُلِّهِمْ لِأَنْ يَكُونُوا غُزَاةً أَوْ جُنْدًا، وَأَنْ لَيْسَ حَظُّ الْقَائِمِ بِوَاجِبِ التَّعْلِيمِ دُونَ حَظِّ الْغَازِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ كِلَيْهِمَا يَقُومُ بِعَمَلٍ لِتَأْيِيدِ الدِّينِ، فَهَذَا يُؤَيِّدُهُ بِتَوَسُّعِ سُلْطَانِهِ وَتَكْثِيرِ أَتْبَاعِهِ، وَالْآخَرُ يُؤَيِّدُهُ بِتَثْبِيتِ ذَلِكَ السُّلْطَانِ وَإِعْدَادِهِ لِأَنْ يَصْدُرَ عَنْهُ مَا يَضْمَنُ انْتِظَامَ أَمْرِهِ وَطُولَ دَوَامِهِ، فَإِنَّ اتِّسَاعَ الْفُتُوحِ وَبَسَالَةَ الْأُمَّةِ لَا يَكْفِيَانِ لِاسْتِبْقَاءِ سُلْطَانِهَا إِذَا هِيَ خَلَتْ مِنْ جَمَاعَةٍ صَالِحَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالسَّاسَةِ وَأُولِي الرَّأْيِ الْمُهْتَمِّينَ بِتَدْبِيرِ ذَلِكَ السُّلْطَانِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَثْبُتْ مُلْكُ اللَّمْتُونِيِّينَ فِي الْأَنْدَلُسِ إِلَّا قَلِيلًا حَتَّى تَقَلَّصَ، وَلَمْ تَثْبُتْ دَوْلَةُ التَّتَارِ إِلَّا بَعْدَ أَنِ امْتَزَجُوا بِعُلَمَاءِ الْمُدُنِ الَّتِي فَتَحُوهَا وَوَكَلُوا أَمْرَ الدَّوْلَةِ إِلَيْهِمْ.
وَإِذْ قَدْ كَانَتِ الْآيَةُ السَّابِقَةُ قَدْ حَرَّضَتْ فَرِيقًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الِالْتِفَافِ حَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْغَزْوِ لِمَصْلَحَةِ نَشْرِ الْإِسْلَامِ نَاسَبَ أَنْ يُذْكَرَ عَقِبَهَا نَفْرُ فَرِيقٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلتَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ لِيَكُونُوا مُرْشِدِينَ لِأَقْوَامِهِمُ الَّذِينَ دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ.
وَمِنْ مَحَاسِنَ هَذَا الْبَيَانِ أَنْ قَابَلَ صِيغَةَ التَّحْرِيضِ عَلَى الْغَزْوِ بِمِثْلِهَا فِي التَّحْرِيضِ عَلَى الْعِلْمِ إِذِ افْتُتِحَتْ صِيغَةُ تَحْرِيضِ الْغَزْوِ بِلَامِ الْجُحُودِ فِي قَوْلِهِ: مَا كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ [التَّوْبَة: ١٢٠] الْآيَةَ وَافْتُتِحَتْ صِيغَةُ التَّحْرِيضِ عَلَى الْعِلْمِ وَالتَّفَقُّهِ بِمِثْلِ ذَلِكَ إِذْ يَقُولُ: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً.
وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَجْمُوعِ الْكَلَامِ الَّذِي قَبْلَهَا فَهِيَ جُمْلَةٌ ابْتِدَائِيَّةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لغَرَض جَدِيد ناشىء عَنْ قَوْلِهِ: مَا لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا [التَّوْبَة: ٣٨] ثُمَّ عَنْ قَوْلِهِ: مَا
كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا
[التَّوْبَة: ١٢٠] إِلَخْ. وَمَعْنَى أَنْ يَتَخَلَّفُوا هُوَ أَنْ لَا يَنْفِرُوا، فَنَاسَبَ أَنْ يُذْكَرَ بَعْدَهُ وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute