وَالسِّيَاحَةُ حَقِيقَتُهَا السَّيْرُ فِي الْأَرْضِ. وَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ بِهَذَا السَّيْرِ مُفَرَّعًا عَلَى الْبَرَاءَةِ مِنَ الْعَهْدِ، وَمُقَرِّرًا لحُرْمَة الْأَشْهر الْحَرَام، عُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ السَّيْرُ بِأَمْنٍ دُونَ خَوْفٍ فِي أَيِّ مَكَانٍ من الأَرْض، وَلَيْسَ هُوَ سيرهم فِي أَرض قَومهمْ، دلّ على ذَلِك إِطْلَاق السياحة
وَإِطْلَاق الْأَرْضِ، فَكَانَ الْمَعْنَى: فَسِيحُوا آمِنِينَ حَيْثُمَا شِئْتُمْ مِنَ الْأَرْضِ.
وَهَذَا تَأْجِيلٌ خَاصٌّ بَعْدَ الْبَرَاءَةِ كَانَ ابْتِدَاؤُهُ مِنْ شَوَّالٍ وَقْتَ نُزُولِ بَرَاءَةٌ، وَنِهَايَتُهُ نِهَايَةُ مُحَرَّمٍ فِي آخِرِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ الْمُتَوَالِيَةِ، وَهِيَ: ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ. وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَأُجِّلَ النَّاسُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمِ أُذِّنَ فِيهِمْ لِيَرْجِعَ كُلُّ قَوْمٍ إِلَى مَأْمَنِهِمْ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ تَبْتَدِئُ مِنْ عَاشِرِ ذِي الْحِجَّةِ وَتَنْتَهِي فِي عَاشِرِ رَبِيعٍ الْآخَرِ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ [التَّوْبَة: ٥] (أَيْ مِنْ ذَلِكَ الْعَامِ) تَنْهِيَةً لِذَلِكَ الْأَجَلِ رُوعِيَ فِيهَا الْمُدَّةُ الْكَافِيَةُ لِرُجُوعِ النَّاسِ إِلَى بِلَادِهِمْ، وَذَلِكَ نِهَايَةُ الْمُحَرَّمِ.
وَقِيلَ: الْأَشْهُرُ الْأَرْبَعَةُ هِيَ الْمَعْرُوفَةُ عِنْدَهُمْ فِي جَمِيعِ قَبَائِلِ الْعَرَبِ وَهِيَ ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ وَرَجَبٌ، أَيْ فَلَمْ يَبْقَ لِلْمُشْرِكِينَ أَمْنٌ إِلَّا فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ وَعَلَى هَذَا فَلَيْسَ فِي الْآيَةِ تَأْجِيلٌ خَاصٌّ لِتَأْمِينِهِمْ، وَلَكِنَّهُ التَّأْمِينُ الْمُقَرِّرُ لِلْأَشْهُرِ الْحُرُمِ فَيَكُونُ الْمَعْنَى:
الْبَرَاءَةُ مِنَ الْعَهْدِ الَّذِي بَيْنَهُمْ فِيمَا زَادَ عَلَى الْأَمْنِ الْمُقَرِّرِ لِلْأَشْهُرِ الْحُرُمِ. وَحَكَى السُّهَيْلِيُّ فِي «الرَّوْضِ الْآنِفِ» أَنَّهُ قِيلَ أَنَّهُ أَرَادَ بِانْسِلَاخِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ ذَا الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمِ مِنْ ذَلِكَ الْعَامِ، وَأَنَّهُ جَعَلَ ذَلِكَ أَجَلًا لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَمَنْ كَانَ لَهُ عَهْدٌ جُعِلَ لَهُ عَهْدٌ جُعِلَ لَهُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ أَوَّلُهَا يَوْمُ النَّحْرِ مِنْ ذَلِكَ الْعَامِ.
وَفِي هَذَا الْأَمْرِ إِيذَانٌ بِفَرْضِ الْقِتَالِ فِي غَيْرِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، وَبِأَنَّ مَا دُونَ تِلْكَ الْأَشْهُرِ حَرْبٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ، وَسَيَقَعُ التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ.
وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ.
عَطْفٌ عَلَى فَسِيحُوا دَاخِلٌ فِي حُكْمِ التَّفْرِيعِ، لِأَنَّهُ لَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِالْأَمَانِ فِي أَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ عَقَّبَهُ بِالتَّخْوِيفِ مِنْ بَأْسِ اللَّهِ احْتِرَاسًا مِنْ تَطَرُّقِ الْغُرُورِ، وَتَهْدِيدًا بِأَنْ لَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute