وَجُمْلَةُ إِلَّا يَعْلَمُها خَبَرٌ مُفْرَغٌ لَهُ حَرْفُ الِاسْتِثْنَاءِ. وَلا حَبَّةٍ عُطِفَ عَلَى الْمُبْتَدَأِ بِإِعَادَةِ حَرْفِ النَّفْيِ، وفِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ صِفَةٌ لِ حَبَّةٍ، أَيْ وَلَا حَبَّةٍ مِنْ بُذُورِ النَّبْتِ مَظْرُوفَةٍ فِي طَبَقَاتِ الْأَرْضِ إِلَى أَبْعَدِ عُمْقٍ يُمْكِنُ، فَلَا يَكُونُ حَبَّةٍ مَعْمُولًا لِفِعْلِ تَسْقُطُ لِأَنَّ
الْحَبَّةَ الَّتِي تَسْقُطُ لَا تَبْلُغُ بِسُقُوطِهَا إِلَى ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ. وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ مَعْطُوفَانِ عَلَى الْمُبْتَدَأِ الْمَجْرُورِ بِ مِنْ. وَالْخَبَرُ عَن هَذِه المبتدءات الثَّلَاثَةِ هُوَ قَوْلُهُ: إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ لِوُرُودِهِ بَعْدَ الثَّلَاثَةِ، وَذَلِكَ ظَاهِرُ وُقُوعِ الْإِخْبَارِ بِهِ عَنِ الثَّلَاثَةِ، وَأَنَّ الْخَبَرَ الْأَوَّلَ رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِهِ: مِنْ وَرَقَةٍ.
وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ الْمُبِينِ الْعِلْمُ الثَّابِتُ الَّذِي لَا يَتَغَيَّرُ، وَمَا عَسَى أَنْ يَكُونَ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ آثَارِ الْعِلْمِ مِنْ كِتَابَةٍ أَوْ غَيْرِهَا لَمْ يُطْلِعْنَا عَلَى كُنْهِهَا.
وَقِيلَ: جَرُّ حَبَّةٍ عَطْفٌ عَلَى وَرَقَةٍ مَعَ إِعَادَةِ حَرْفِ النَّفْيِ، وفِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَصْفٌ لِ حَبَّةٍ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ بِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى حَبَّةٍ ووَرَقَةٍ، فَيَقْتَضِي أَنَّهَا مَعْمُولَةٌ لِفِعْلِ تَسْقُطُ، أَيْ مَا يَسْقُطُ رَطْبٌ وَلَا يَابِسٌ، وَمُقَيَّدَةٌ بِالْحَالِ فِي وَقَوله: إِلَّا يَعْلَمُها.
وَقَوْلُهُ: إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ تَأْكِيدٌ لِقَوْلِهِ: إِلَّا يَعْلَمُها لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْكِتَابِ الْمُبِينِ عِلْمُ اللَّهِ تَعَالَى سَوَاءٌ كَانَ الْكِتَابُ حَقِيقَةً أَمْ مَجَازًا عَنِ الضَّبْطِ وَعَدَمِ التَّبْدِيلِ. وَحَسَّنَ هَذَا التَّأْكِيدَ تَجْدِيدُ الْمَعْنَى لِبُعْدِ الْأَوَّلِ بِالْمَعْطُوفَاتِ وَصِفَاتِهَا، وَأُعِيدَ بِعِبَارَةٍ أُخْرَى تَفَنُّنًا.
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي وَجْهِ جَمْعِ ظُلُماتِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [١] . ومُبِينٍ إِمَّا مِنْ أَبَانَ الْمُتَعَدِّي، أَيْ مُبَيِّنٌ لِبَعْضِ مَخْلُوقَاتِهِ مَا يُرِيدُهُ كَالْمَلَائِكَةِ، أَوْ مَنْ أَبَانَ الْقَاصِرِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى بَانَ، أَيْ بَيِّنٌ، أَيْ فُصِّلَ بِمَا لَا احْتِمَالَ فِيهِ وَلَا تَرَدُّدَ.
وَقَدْ عُلِمَ مَنْ هَاتِهِ الْآيَاتِ عُمُومُ عِلْمِهِ تَعَالَى بِالْكُلِّيَّاتِ وَالْجُزْئِيَّاتِ. وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عِنْدَ أَهْلِ الْأَدْيَانِ دُونَ تَصْرِيحٍ بِهِ فِي الْكُتُبِ السَّابِقَةِ وَمَا أَعْلَنَهُ إِلَّا الْقُرْآنُ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute