وُحُوشَهُ وَدَوَابَّهُ تَقْوِيَةً لِحُرْمَتِهِ فِي النُّفُوسِ، فَكَانَتِ الْكَعْبَةُ قِيَامًا لِكُلِّ عَرَبِيٍّ إِذَا طَرَقَهُ ضَيْمٌ.
وَكَانَ أَهْلُ مَكَّةَ وَحَرَمِهَا يَسِيرُونَ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ آمِنِينَ لَا يَتَعَرَّضُ لَهُمْ أَحَدٌ بِسُوءٍ، فَكَانُوا يَتَّجِرُونَ وَيَدْخُلُونَ بِلَادَ قَبَائِلِ الْعَرَبِ، فَيَأْتُونَهُمْ بِمَا يَحْتَاجُونَهُ وَيَأْخُذُونَ مِنْهُمْ مَا لَا يَحْتَاجُونَهُ لِيَبْلُغُوهُ إِلَى مَنْ يَحْتَاجُونَهُ، وَلَوْلَاهُمْ لَمَا أَمْكَنَ لِتَاجِرٍ مِنْ قَبِيلَةٍ أَنْ يَسِيرَ فِي الْبِلَادِ، فَلَتَعَطَّلَتِ التِّجَارَةُ وَالْمَنَافِعُ. وَلِذَلِكَ كَانَ قُرَيْشٌ يُوصَفُونَ بَيْنَ الْعَرَبِ بِالتُّجَّارِ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ جَعَلُوا رِحْلَتَيِ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ اللَّتَيْنِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمَا: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ
الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ
[قُرَيْش: ١، ٢] . وَبِذَلِكَ كُلِّهِ بَقِيَتْ أُمَّةُ الْعَرَبِ مَحْفُوظَةَ الْجِبِلَّةِ الَّتِي أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَكُونُوا مَجْبُولِينَ عَلَيْهَا، فَتَهَيَّأَتْ بَعْدَ ذَلِكَ لِتَلَقِّي دَعْوَة مُحَمَّد- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحَمْلِهَا إِلَى الْأُمَمِ، كَمَا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى وَتَمَّ بِذَلِكَ مُرَادُهُ.
وَإِذَا شِئْتَ أَنْ تَعْدُوَ هَذَا فَقُلْ: إِنَّ الْكَعْبَةَ كَانَتْ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَهُمُ الْعَرَبُ، إِذْ كَانَتْ سَبَبَ اهْتِدَائِهِمْ إِلَى التَّوْحِيدِ وَاتِّبَاعِ الْحَنِيفِيَّةِ، وَاسْتَبْقَتْ لَهُمْ بَقِيَّةً مِنْ تِلْكَ الْحَنِيفِيَّةِ فِي مُدَّةِ جَاهِلِيَّتِهِمْ كُلِّهَا لَمْ يَعْدَمُوا عَوَائِدَ نَفْعِهَا. فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ كَانَ الْحَجُّ إِلَيْهَا مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ، وَبِهِ تُكَفَّرُ الذُّنُوبُ، فَكَانَتِ الْكَعْبَةُ مِنْ هَذَا قِيَامًا لِلنَّاسِ فِي أُمُورِ أُخْرَاهُمْ بِمِقْدَارِ مَا يَتَمَسَّكُونَ بِهِ مِمَّا جُعِلَتِ الْكَعْبَةُ لَهُ قِيَامًا.
وَعَطْفُ الشَّهْرَ الْحَرامَ عَلَى الْكَعْبَةَ شِبْهُ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ بِاعْتِبَارِ كَوْنِ الْكَعْبَةِ أُرِيدَ بِهَا مَا يَشْمَلُ عَلَائِقَهَا وَتَوَابِعَهَا، فَإِنَّ الْأَشْهُرَ الْحُرُمَ مَا اكْتَسَبَتِ الْحُرْمَةَ إِلَّا مِنْ حَيْثُ هِيَ أَشْهُرُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ لِلْكَعْبَةِ كَمَا عَلِمْتَ. فَالتَّعْرِيفُ فِي الشَّهْرَ لِلْجِنْسِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ [الْمَائِدَة: ٢] . وَلَا وَجْهَ لِتَخْصِيصِهِ هُنَا بِبَعْضِ تِلْكَ الْأَشْهُرِ. وَكَذَلِكَ عَطْفُ الْهَدْيَ والْقَلائِدَ. وَكَوْنُ الْهَدْيِ قِيَامًا لِلنَّاسِ ظَاهِرٌ، لِأَنَّهُ يَنْتَفِعُ بِبَيْعِهِ لِلْحَاجِّ أَصْحَابُ الْمَوَاشِي مِنَ الْعَرَبِ، وَيَنْتَفِعُ بِلُحُومِهِ مِنَ الْحَاجِّ فُقَرَاءُ الْعَرَبِ، فَهُوَ قِيَامٌ لَهُمْ.
وَكَذَلِكَ الْقَلَائِدُ فَإِنَّهُمْ يَنْتَفِعُونَ بِهَا فَيَتَّخِذُونَ مِنْ ظَفَائِرِهَا مَادَّةً عَظِيمَةً لِلْغَزْلِ وَالنَّسْجِ، فَتِلْكَ قِيَامٌ لِفُقَرَائِهِمْ، وَوَجْهُ تَخْصِيصِهَا بِالذِّكْرِ هُنَا، وَإِنْ كَانَتْ هِيَ مِنْ أَقَلِّ آثَارِ الْحَجِّ، التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ عَلَائِقِ الْكَعْبَةِ فِيهَا قِيَامٌ لِلنَّاسِ، حَتَّى أَدْنَى الْعَلَائِقِ، وَهُوَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute