وَالتَّصَوُّرُ. وَلَيْسَتْ هِيَ كَمَحَبَّةِ اسْتِحْسَانِ الذَّاتِ، أَلَا تَرَى أَنَّا نحبّ النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ كَثْرَةِ مَا نَسْمَعُ مِنْ فَضَائِلِهِ وَحِرْصِهِ عَلَى خَيْرِنَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَتَقْوَى هَذِهِ الْمَحَبَّةُ بِمِقْدَارِ كَثْرَةِ مُمَارَسَةِ أَقْوَالِهِ وَذِكْرِ شَمَائِلِهِ وَتَصَرُّفَاتِهِ وَهَدْيِهِ، وَكَذَلِكَ نُحِبُّ الْخُلَفَاءَ الْأَرْبَعَةَ لِكَثْرَةِ مَا نَسْمَعُ مِنْ حُبِّهِمُ الرَّسُولَ وَمِنْ بَذْلِهِمْ غَايَةَ النُّصْحِ فِي خَيْرِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَذَلِكَ نُحِبُّ حَاتِمًا لِمَا نَسْمَعُ مِنْ كَرَمِهِ. وَقَدْ قَالَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ امْرَأَةُ أَبِي سُفْيَانَ لرَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا كَانَ أَهْلُ خِبَاءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَذِلُّوا مِنْ أَهْلِ خِبَائِكَ وَقَدْ أَصْبَحْتُ وَمَا أَهْلُ خِبَاءٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَعُزُّوا مِنْ أَهْلِ خِبَائِكَ.
وَالْأَذِلَّةُ وَالْأَعِزَّةُ وَصْفَانِ مُتَقَابِلَانِ وُصِفَ بِهِمَا الْقَوْمُ بِاخْتِلَافِ الْمُتَعَلِّقِ بِهِمَا، فَالْأَذِلَّةُ جَمْعُ الذَّلِيلِ وَهُوَ الْمَوْصُوفُ بِالذُّلِّ. وَالذُّلُّ- بِضَمِّ الذَّالِ وَبِكَسْرِهَا- الْهَوَانُ وَالطَّاعَةُ، فَهُوَ ضِدُّ الْعِزِّ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ [آل عمرَان: ١٢٣] . وَفِي بَعْضِ التَّفَاسِيرِ: الذُّلُّ- بِضَمِّ الذَّالِ- ضِدُّ الْعِزِّ- وَبِكَسْرِ الذَّالِ- ضِدُّ الصُّعُوبَةِ، وَلَا يُعْرَفُ لِهَذِهِ التَّفْرِقَةِ سَنَدٌ فِي اللُّغَةِ. وَالذَّلِيلُ جَمْعُهُ الْأَذِلَّةُ، وَالصِّفَةُ الذُّلُّ وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ [الْإِسْرَاء: ٢٤] . وَيُطْلَقُ الذُّلُّ عَلَى لِينِ الْجَانِبِ وَالتَّوَاضُعِ، وَهُوَ مَجَازٌ، وَمِنْهُ مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ.
فَالْمُرَادُ هُنَا الذُّلُّ بِمَعْنَى لِينِ الْجَانِبِ وَتَوْطِئَةِ الْكَنَفِ، وَهُوَ شِدَّةُ الرَّحْمَةِ وَالسَّعْيُ لِلنَّفْعِ، وَلِذَلِكَ عُلِّقَ بِهِ قَوْلُهُ: عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. وَلِتَضْمِينِ أَذِلَّةٍ مَعْنَى مُشْفِقِينَ حانين عدّي بعلى دُونَ اللَّامِ، أَوْ لِمُشَاكَلَةِ (عَلَى) الثَّانِيَةِ فِي قَوْلِهِ: عَلَى الْكافِرِينَ.
وَالْأَعِزَّةُ جَمْعُ الْعَزِيزِ فَهُوَ الْمُتَّصِفُ بِالْعِزِّ، وَهُوَ الْقُوَّةُ وَالِاسْتِقْلَالُ» ، وَلِأَجْلِ مَا فِي طِبَاعِ الْعَرَبِ مِنَ الْقُوَّةِ صَارَ الْعِزُّ فِي كَلَامِهِمْ يَدُلُّ عَلَى مَعْنَى الِاعْتِدَاءِ، فَفِي الْمَثَلِ (مَنْ عَزَّ بَزَّ) . وَقَدْ أَصْبَحَ الْوَصْفَانِ مُتَقَابِلَيْنِ، فَلِذَلِكَ قَالَ السَّمَوْأَلُ أَوِ الْحَارِثِيُّ:
وَمَا ضَرَّنَا أَنَّا قَلِيلٌ وَجَارُنَا ... عَزِيزٌ وَجَارُ الْأَكْثَرِينَ ذَلِيلُ
وَإِثْبَاتُ الْوَصْفَيْنِ الْمُتَقَابِلَيْنِ لِلْقَوْمِ صِنَاعَةٌ عَرَبِيَّةٌ بَدِيعِيَّةٌ، وَهِيَ الْمُسَمَّاةُ الطِّبَاقَ، وَبُلَغَاءُ الْعَرَبِ يُغَرِّبُونَ بِهَا، وَهِيَ عَزِيزَةٌ فِي كَلَامِهِمْ، وَقَدْ جَاءَ كَثِيرٌ مِنْهَا فِي
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute