وَمِنَ اللَّطَائِفِ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ هِشَامٍ، فِي شَرْحِ قَصِيدَةِ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ عِنْدَ قَوْلِ كَعْبٍ:
لَكِنَّهَا خُلَّةٌ قَدْ سِيطَ مِنْ دَمِهَا ... فَجْعٌ وَوَلْعٌ وَإِخْلَافٌ وَتَبْدِيلُ
أَنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ قَالَ: إِنَّهُ رَأَى نَفْسَهُ فِي النَّوْمِ يَقُولُ: الْعَدَاوَةُ مُشْتَقَّةٌ مِنْ عُدْوَةِ الْوَادِي، أَيْ جَانِبِهِ، لِأَنَّ الْمُتَعَادِيَيْنِ يَكُونُ أَحَدُهُمَا مُفَارِقًا لِلْآخَرِ فَكَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا على عدوة اه. فَيَكُونُ مُشْتَقًّا مِنَ الِاسْمِ الْجَامِدِ وَهُوَ بَعِيدٌ.
وَإِلْقَاءُ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ بَيْنَهُمْ كَانَ عِقَابًا فِي الدُّنْيَا لِقَوْلِهِ: إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ جَزَاءً عَلَى نَكْثِهِمُ الْعَهْدَ. وَأَسْبَابُ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ شِدَّةُ الِاخْتِلَافِ: فَتَكُونُ مِنِ اخْتِلَافِهِمْ فِي نِحَلِ الدِّينِ بَيْنَ يَعَاقِبَةٍ، ومَلْكَانِيَّةٍ، ونُسْطُورِيَّةٍ، وهَرَاتِقَةٍ (بُرُوتِسْتَانْتَ) وَتَكُونُ مِنَ التَّحَاسُدِ عَلَى السُّلْطَانِ وَمَتَاعِ الدُّنْيَا، كَمَا كَانَ بَيْنَ مُلُوكِ النَّصْرَانِيَّةِ، وَبَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رُؤَسَاءَ دِيَانَتِهِمْ.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ أُغْرِيَتْ بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةُ وَهُمْ لَمْ يَزَالُوا إِلْبًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ؟ فَجَوَابُهُ: أَنَّ الْعَدَاوَةَ ثَابِتَةٌ بَيْنَهُمْ فِي الدِّينِ بِانْقِسَامِهِمْ فِرَقًا، كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [١٧١] عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، وَذَلِكَ الِانْقِسَامُ يَجُرُّ إِلَيْهِمُ الْعَدَاوَةَ وَخَذَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. ثُمَّ إِنَّ دُوَلَهُمْ كَانَتْ مُنْقَسِمَةً وَمُتَحَارِبَةً، وَلَمْ تَزَلْ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا تَأَلَّبُوا فِي
الْحُرُوبِ الصَّلِيبِيَّةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ لَمْ يَلْبَثُوا أَنْ تَخَاذَلُوا وَتَحَارَبُوا، وَلَا يَزَالُ الْأَمْرُ بَيْنَهُمْ كَذَلِكَ إِلَى الْآنَ. وَكَمْ ضَاعَتْ مَسَاعِي السَّاعِينَ فِي جَمْعِهِمْ عَلَى كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ وَتَأْلِيفِ اتِّحَادٍ بَيْنَهُمْ، وَكَانَ اخْتِلَافُهُمْ لُطْفًا بِالْمُسْلِمِينَ فِي مُخْتَلِفِ عُصُورِ التَّارِيخِ الْإِسْلَامِيِّ، عَلَى أَنَّ اتِّفَاقَهُمْ عَلَى أُمَّةٍ أُخْرَى لَا يُنَافِي تَمَكُّنَ الْعَدَاوَةِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَكَفَى بِذَلِكَ عِقَابًا لَهُمْ عَلَى نِسْيَانِهِمْ مَا ذُكِّرُوا بِهِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute