للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَالْمُرَادُ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا الْمُسْلِمُونَ لَا مَحَالَةَ، وَالضَّمِيرُ فِي اخْتَلَفُوا عَائِدٌ لِلْمُخْتَلِفِينَ كُلِّهِمْ، سَوَاءٌ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْحَقِّ قَبْلَ مَجِيءِ الرُّسُلِ وَالَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الشَّرَائِعِ بَعْدَ مَجِيءِ الرُّسُلِ وَالْبَيِّنَاتِ وَلذَلِك بَينه بقوله: مِنَ الْحَقِّ وَهُوَ الْحَقُّ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي قَوْلِهِ: وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ اخْتِلَافَ الْفَرِيقَيْنِ رَاجِعٌ إِلَى الِاخْتِلَافِ فِي تَعْيِينِ الْحَقِّ إِمَّا عَنْ جَهْلٍ أَوْ عَنْ حَسَدٍ وَبَغْيٍ.

وَالْإِذْنُ: الْخِطَابُ بِإِبَاحَةِ فِعْلٍ وَأَصْلُهُ مُشْتَقٌّ مِنْ فِعْلِ أَذِنَ إِذَا أَصْغَى أُذُنَهُ إِلَى كَلَامِ مَنْ يُكَلِّمُهُ، ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى الْخِطَابِ بِإِبَاحَةِ فِعْلٍ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ بِعَلَاقَةِ اللُّزُومِ لِأَنَّ الْإِصْغَاءَ إِلَى كَلَامِ الْمُتَكَلِّمِ يَسْتَلْزِمُ الْإِقْبَالَ عَلَيْهِ وَإِجَابَةَ مَطْلَبِهِ، وَشَاعَ ذَلِكَ حَتَّى صَارَ الْإِذْنُ أَشْيَعَ فِي مَعْنَى الْخِطَابِ بِإِبَاحَةِ الْفِعْلِ، وَبِذَلِكَ صَارَ لَفْظُ الْإِذْنِ قَابِلًا لِأَنْ يُسْتَعْمَلَ مَجَازًا فِي مَعَانٍ مِنْ مُشَابِهَاتِ الْخِطَابِ بِالْإِبَاحَةِ، فَأُطْلِقَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى التَّمْكِينِ مِنَ الِاهْتِدَاءِ وَتَيْسِيرِهِ بِمَا فِي الشَّرَائِعِ مِنْ بَيَانِ الْهُدَى وَالْإِرْشَادِ إِلَى وَسَائِلِ الِاهْتِدَاءِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ، لِأَنَّ مَنْ يُيَسِّرُ لَكَ شَيْئًا فَكَأَنَّهُ أَبَاحَ لَكَ تَنَاوُلَهُ.

وَفِي هَذَا إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ اللَّهَ بَعَثَ بِالْإِسْلَامِ لِإِرْجَاعِ النَّاسِ إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى التَّوْحِيدِ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ، أَوْ لِإِرْجَاعِهِمْ إِلَى الْحَقِّ الَّذِي جَاءَتِ الرُّسُلُ لِتَحْصِيلِهِ، فَاخْتَلَفَ أَتْبَاعُهُمْ فِيهِ بَدَلًا مِنْ أَنْ يُحَقِّقُوا بِأَفْهَامِهِمْ مَقَاصِدَ مَا جَاءَتْ بِهِ رُسُلُهُمْ، فَحَصَلَ بِمَا فِي الْإِسْلَامِ مِنْ بَيَانِ الْقُرْآنِ الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ وُضُوحُ الْحَقِّ وَالْإِرْشَادُ إِلَى كَيْفِيَّةِ أَخْذِهِ، فَحَصَلَ بِمَجِيءِ الْإِسْلَامِ إِتْمَامُ مُرَاد الله مِمَّا أُنْزِلَ مِنَ الشَّرَائِعِ السَّالِفَةِ.

وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ تَذْيِيلٌ لِبَيَانِ أَنَّ فَضْلَ اللَّهِ يُعْطِيهِ مَنْ يَشَاءُ، وَهَذَا إِجْمَالٌ، وَتَفْصِيلُهُ أَنَّ حِكْمَةَ اللَّهِ اقْتَضَتْ أَنْ يَتَأَخَّرَ تَمَامُ الْهُدَى إِلَى وَقْتِ مَجِيءِ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ لِمَا تَهَيَّأَ الْبَشَرُ بِمَجِيءِ الشَّرَائِعِ السَّابِقَةِ لِقَبُولِ هَذِه الشَّرِيعَة الجامعة،

فَكَانَت الشَّرَائِعُ السَّابِقَةُ تَمْهِيدًا وَتَهْيِئَةً لِقَبُولِ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَلِذَلِكَ صُدِّرَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِقَوْلِهِ:

كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً، فَكَمَا كَانَ الْبَشَرُ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ أُمَّةً وَاحِدَةً عَلَى هُدًى بَسِيطٍ ثُمَّ عَرَضَتْ لَهُ الضَّلَالَاتُ عِنْدَ تَحَرُّكِ الْأَفْكَارِ الْبَشَرِيَّةِ، رَجَعَ الْبَشَرُ إِلَى دِينٍ وَاحِدٍ فِي حَالَةِ ارْتِقَاءِ الْأَفْكَارِ، وَهَذَا اتِّحَادٌ عَجِيبٌ، لِأَنَّهُ جَاءَ بَعْدَ تَشَتُّتِ الْآرَاءِ وَالْمَذَاهِبِ، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ، و