مَشِيئًا وَعُمُومُ الْأَشْخَاصِ يَسْتَلْزِمُ عُمُومَ الْأَحْوَالِ وَالْأَزْمِنَةِ، أَيْ مَا تَشَاءُونَ شَيْئًا فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ أَوْ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ.
وَقَدْ عُلِّلَ ارْتِبَاطُ حُصُولِ مَشِيئَتِهِمْ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ، بِأَنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ، أَيْ عَلِيمٌ بِوَسَائِلِ إِيجَادِ مَشِيئَتِهِمُ الْخَيْرَ، حَكِيمٌ بِدَقَائِقِ ذَلِكَ مِمَّا لَا تَبْلُغُ إِلَى مَعْرِفَةِ دَقَائِقِهِ بِالْكُنْهِ عُقُولُ النَّاسِ، لِأَنَّ هُنَالِكَ تَصَرُّفَاتٍ عُلْوِيَّةً لَا يَبْلُغُ النَّاسُ مَبْلَغَ الِاطِّلَاعِ عَلَى تَفْصِيلِهَا وَلَكِنْ حَسْبُهُمْ الِاهْتِدَاءُ بِآثَارِهَا وَتَزْكِيَةُ أَنْفُسِهِمْ لِلصَّدِّ عَنِ الْإِعْرَاضِ عَنِ التَّدَبُّرِ فِيهَا.
وَمَا نَافِيَةٌ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ عُمُومِ الْأَشْيَاءِ الْمَشِيئَةِ وَأَحْوَالِهَا وَأَزْمَانِهَا، وَلَمَّا كَانَ مَا بَعْدَ أَدَاةِ الِاسْتِثْنَاءِ حَرْفَ مَصْدَرٍ تَعَيَّنَ أَنَّ الْمُسْتَثْنَى يُقَدَّرُ مَصْدَرًا، أَيْ إِلَّا شَيْءَ اللَّهِ (بِمَعْنَى مَشِيئَتِهِ) ، وَهُوَ صَالِحٌ لِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى الْمَصْدَرِيِّ وَلِاعْتِبَارِ الْحَالَةِ، وَلِاعْتِبَارِ الزَّمَانِ، لِأَنَّ الْمَصْدَرَ صَالِحٌ لِإِرَادَةِ الثَّلَاثَةِ بِاخْتِلَافِ التَّأْوِيلِ فَإِنْ قُدِّرَ مُضَافٌ كَانَ الْمَعْنَى: إِلَّا حَالَ مَشِيئَةِ اللَّهِ، أَوْ إِلَّا زَمَنَ مَشِيئَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يُقَدَّرْ مُضَافٌ كَانَ الْمَعْنَى: لَا مَشِيئَةَ لَكُمْ فِي الْحَقِيقَةِ إِلَّا تَبَعًا لِمَشِيئَةِ اللَّهِ.
وَإِيثَارُ اجْتِلَابِ أَنْ الْمَصْدَرِيَّةِ مِنْ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يكون فعلا تَشاؤُنَ ويَشاءَ اللَّهُ مُنْزَلَيْنِ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ فَلَا يُقَدَّرَ لَهُمَا مَفْعُولَانِ عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِ الْبُحْتُرِيِّ:
أَنْ يَرَى مُبْصِرٌ وَيَسْمَعَ وَاعٍ وَيَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ أَحْوَالٍ، أَيْ وَمَا تَحْصُلُ مَشِيئَتُكُمْ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ إِلَّا فِي حَالِ حُصُولِ مَشِيئَةِ اللَّهِ. وَفِي هَذَا كُلِّهِ إِشَارَةٌ إِلَى دِقَّةِ كُنْهِ مَشِيئَةِ الْعَبْدِ تِجَاهَ مَشِيئَةِ اللَّهِ وَهُوَ الْمَعْنَى الَّذِي جَمَعَ الْأَشْعَرِيُّ التَّعْبِيرَ عَنْهُ بِالْكَسْبِ، فَقِيلَ فِيهِ «أَدَقُّ مِنْ كَسْبِ الْأَشْعَرِيِّ» .
فَفِي الْآيَةِ تَنْبِيهُ النَّاسِ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى الْخَفِيِّ لِيَرْقُبُوهُ فِي أَنْفُسِهِمْ فَيَجِدُوا آثَارَهُ الدَّالَّةَ عَلَيْهِ قَائِمَةً مُتَوَافِرَةً، وَلِهَذَا أُطْنِبَ وَصْفُ هَذِهِ الْمَشِيئَةِ بِالتَّذْيِيلِ بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً فَهُوَ تَذْيِيلٌ أَوْ تَعْلِيلٌ لِجُمْلَةِ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ [الْإِنْسَان: ٣١] ، أَيْ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ لَهُ الْعِلْمُ وَالْحِكْمَةُ فَهُوَ أَعْلَمُ فَمَنْ شَاءَ أَنْ يُدْخِلَهُ فِي رَحْمَتِهِ وَمَنْ شَاءَ أَبْعَدَهُ عَنْهَا.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute