الرب؛ أي: انتهى الأمر إليه؛ لأنك إذا نظرت إلى سائر الموجودات الممكنة؛ علمت: أنه لا بد لها من موجد، وإذا علمت: أن موجدها هو الله تعالى، فقد انتهى الأمر إليه، ومن هذا المعنى قول النبي صلّى الله عليه وسلّم:«يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول: من خلق ربّك؟! فإذا بلغ ذلك فليستعذ بالله، ولينته» أخرجه مسلم عن أبي هريرة-رضي الله عنه- ولقد أحسن من قال:[الطويل] ولا تفكرن في ذي العلا عزّ وجهه... فإنّك تردى إن فعلت وتخذل
ودونك مصنوعاته فاعتبر بها... وقل مثل ما قال الخليل المبجّل
{وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى} أي: إن الله هو القادر على إيجاد الضدين في محل واحد:
الضحك والبكاء، ففيه دليل على أن جميع ما يعمله الإنسان، فبقضاء الله وقدره وخلقه حتى الضحك والبكاء، قيل: أضحك أهل الجنة في الجنة، وأبكى أهل النار في النار. وقيل:
أضحك الأرض بالنبات، وأبكى السماء بالمطر. وقيل: أفرح وأحزن؛ لأن الفرح يجلب الضحك، والحزن يجلب البكاء. فعن جابر بن سمرة-رضي الله عنه-قال: جالست النبي صلّى الله عليه وسلّم أكثر من مئة مرة، وكان أصحابه يتناشدون الشعر، ويتذاكرون أشياء من أمر الجاهلية، وهو ساكت، وربما تبسم معهم إذا ضحكوا، أخرجه الترمذي. وسئل ابن عمر-رضي الله عنهما-، هل كان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يضحكون، قال: نعم، والإيمان في قلوبهم أعظم من الجبل.
وقال ذو النون: أضحك قلوب المؤمنين، والعارفين بشمس معرفته، وأبكى قلوب الكافرين، والعاصين بظلمة مخالفته، ومعصيته. وقال بسام بن عبد الله: أضحك أسنانهم، وأبكى قلوبهم، وأنشد:[البسيط] السّنّ تضحك والأحشاء تحترق... وإنما ضحكها زور ومختلق
يا ربّ باك بعين لا دموع لها... وربّ ضاحك سنّ ما به رمق
وقيل: إن الله تعالى خص الإنسان بالضحك، والبكاء من بين سائر الحيوان. وقد قيل:
القرد وحده يضحك، ولا يبكي، وإن الإبل وحدها تبكي، ولا تضحك. وقال يوسف بن الحسين: سئل طاهر المقدسي أتضحك الملائكة؟ فقال: ما ضحكوا، ولا كل من دون العرش منذ خلقت جهنم.
هذا؛ والبكا بالقصر إسالة الدمع من غير رفع صوت، وبالمد (البكاء) إسالة الدمع مع رفعه.
قال الخليل-رحمه الله تعالى-: من قصر البكاء ذهب به إلى معنى الحزن، ومن مده ذهب به إلى معنى الصوت، قال كعب بن مالك الأنصاري-رضي الله عنه-: [الوافر] بكت عيني وحقّ لها بكاها... وما يغني البكاء ولا العويل