قدرته، وتعالت حكمته: أن ما يقع إنّما هو بمشيئته، كما قال تعالى: {وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النّاسَ أُمَّةً واحِدَةً} {لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النّاسَ جَمِيعاً}. {فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ:} بالله، ورسله، وكتبه، وملائكته، {وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ} أي: بعد نبيه حيث ترك تعاليمه، وخالف أمره، كما فعل اليهود، والنصارى بعد موسى، وعيسى، وغيرهما، وكما فعل كثير من المسلمين، ويفعلون.
وفي قوله: {فَمِنْهُمْ} تفصيل للاختلاف، مثل سابقه، وبين {آمَنَ} و {كَفَرَ} طباق. {وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا:} كرره للتأكيد، أي: لو شاء الله ألا يقتتلوا؛ لم يقتتلوا؛ إذ لا يجري في ملكه إلا ما يوافق مشيئته، وهذا يبطل قول المعتزلة، فإنّهم يقولون: شاء أن لا يقتتلوا، فاقتتلوا، وقد صفع ابن المنير الزّمخشريّ صفعة لطيفة على حيله، وتحيله. {وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ:}
أثبت الله لنفسه الإرادة، كما هو مذهب أهل السنة، يعني: أنّ الله تعالى يوفق من يشاء لطاعته والإيمان به فضلا منه، ورحمة، ويخذل من يشاء عدلا منه، لا اعتراض عليه في ملكه، وفعله.
سأل رجل عليّا-رضي الله عنه-عن القدر، فقال: طريق مظلم، فلا تسلكه، فأعاد السؤال، فقال: بحر عميق، فلا تلجه، فأعاد السؤال، فقال: سرّ الله قد خفي عليك، فلا تفتشه.
تنبيه: أثبتت الآية الكريمة التفاضل بين الرّسل، كما أثبته الله في سورة (الإسراء) بقوله:
{وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً} وهذا مشكل، والأحاديث الثابتة بأنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تخيّروا بين الأنبياء» و «لا تفضّلوا بين أنبياء الله». رواه الشّيخان عن أبي هريرة-رضي الله عنه-بلفظ: استبّ رجل من المسلمين، ورجل من اليهود، فقال اليهوديّ: لا والذي اصطفى موسى على العالمين، فلطم المسلم بيده وجه اليهودي... إلخ، وفي ذلك أجوبة:
الأول: أن هذا كان قبل أن يوحى إليه بالتّفضيل.
القول الثاني: أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم بين أنه سيد ولد آدم، وأنّ القرآن ناسخ للمنع من التفضيل.
القول الثالث: أنّ الرسول صلّى الله عليه وسلّم أراد بقوله: «لا تخيّروني على موسى» وقوله: «لا يقل أحد:
أنا خير من يونس بن متّى» التواضع.
القول الرابع: أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم نهى عن الخوض في ذلك؛ لأنّه يؤدّي إلى الجدال، وذلك يؤدي إلى أن يذكر منهم ما لا ينبغي أن يذكر، ويقلّ احترامهم لبعض الأنبياء عند المماراة.
القول الخامس: أن التفضيل تابع للتفاوت في الفضائل النّفسانية التي وهبها الله لكلّ واحد، ولهذا اشتهر منهم أولو العزم، الّذين تحمّلوا المتاعب، والمصاعب فما وهنوا، وما استكانوا لما أصابهم في سبيل الله، وعلى ما تقدّم فلا تفاضل من جهة النّبوة، التي هي خصلة واحدة لا تفاضل فيها.
وهكذا القول في الصّحابة إن شاء الله الذين اشتركوا في الصّحبة، ثم تباينوا في الفضائل بما منحهم الله من المواهب، والوسائل، فهم متفاضلون بتلك مع أن الكلّ شملتهم الصّحبة،