وهي الآتية من الجهة الشرقية، وقد قيل فيها: الصبا ريح، فيها روح، ما هبت على محزون؛ إلا ذهب حزنه. وعن ابن عباس-رضي الله عنهما-عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال:«نصرت بالصّبا، وأهلكت عاد بالدّبور». متفق عليه، والدّبور: الريح الآتية من جهة المغرب.
فبعث الله على قريش في تلك الليلة ريحا باردة عاتية، فقلعت الأوتاد، وقطعت أطناب الخيم؛ التي أقاموها، وأطفأت النيران، وأكفأت القدور، وجالت الخيل بعضها في بعض. {وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها:} هم الملائكة الذين ألقوا الرعب في قلوب المشركين، وكبروا في جوانب عسكرهم، حتى كان سيد كل خباء، يقول: يا بني فلان هلمّ إليّ! فإذا اجتمعوا إليه، قال لهم: النجاء النجاء؛ لما بعث الله عليهم من الرعب، فقال طليحة بن خويلد الأسدي: أما محمد فقد بدأكم بالسحر، فالنجاء فالنجاء! فانهزموا من غير قتال، ويقرأ:{لَمْ تَرَوْها} بالخطاب للمسلمين المجاهدين، ويقرأ بالياء، أي لم يرها المشركون، فيكون التفاتا من الخطاب إلى الغيبة.
{وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً:} رائيا ما تعملون من حفر الخندق، ومصابرتكم الكفار في الجهاد. ويقرأ بالياء، أي: الله بصير بما يعمل المشركون من التحزب، والكيد، والمحاربة، ويكون من جملة الالتفات، وخذ ما يلي:
غزوة الخندق سميت بذلك لحفر الخندق، وتحصن المسلمين داخله، وتسمى: غزوة الأحزاب، سميت بذلك لتحزب قبائل العرب، واليهود من قريش، وتحالفهم معها على استئصال المسلمين في المدينة، ومحو الإسلام. قال موسى بن عقبة: كانت سنة أربع للهجرة، وقال ابن إسحاق: كانت سنة خمس، وبذلك جزم أهل المغازي، ومال البخاري إلى قول موسى بن عقبة، وصادفت شهر آذار سنة ٦٢٧ م.
وسببها: أنه لما وقع إجلاء بني النضير من المدينة المنورة، واستولى المسلمون على دورهم، وأملاكهم-انظر مطلع سورة الحشر-ذهب جمع منهم، وعلى رأسهم حيي بن أخطب من خيبر؛ حتى قدموا مكة المكرمة، ونزلوا على قريش، وحرضوهم على حرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقالوا: إنا نكون معكم عليه حتى نستأصله! فقال أبو سفيان: مرحبا، وأهلا، وأحب الناس إلينا من أعاننا على حرب محمد، وعداوته! ثم قال لهم أبو سفيان: يا معشر اليهود! إنكم أهل الكتاب الأول، فأخبرونا: أنحن على الحق، أم محمد؟ فقالوا: بل أنتم على الحق، فأنزل الله تعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطّاغُوتِ..}. إلخ الآية رقم [٥٠] من سورة (النساء) وما بعدها.
هذا؛ وفي موقف اليهود من قريش، وتفضيلهم وثنيتهم على محمد صلّى الله عليه وسلّم، يقول الدكتور إسرائيل ولفنسون في كتابه:«تاريخ اليهود في بلاد العرب»: كان من واجب هؤلاء اليهود أن لا يتورطوا في مثل هذا الخطأ الفاحش، وأن لا يصرحوا أمام زعماء قريش بأن عبادة الأصنام أفضل من التوحيد الإسلامي، ولو أدى بهم الأمر إلى عدم إجابة مطلبهم؛ لأن بني إسرائيل الذين