أيديهم اليمنى، وأرجلهم اليسرى. والنّفي: هو الإبعاد من بلد إلى آخر، بحيث لا يمكّنون من القرار في موضع، والمقصود من ذلك الإيحاش، والبعد عن الأهل، والوطن، فإذا عيّن الحاكم المسلم جهة؛ فليس للمنفي طلب غيرها، وفسّره أبو حنيفة، ومالك بالحبس، فينفى من سعة الدّنيا إلى ضيقها، فصار كأنّه إذا سجن؛ فقد نفي من الأرض إلاّ من موضع استقراره، واحتجوا بقول بعض أهل السجون في ذلك:[الطويل]
خرجنا من الدّنيا ونحن من أهلها... فلسنا من الأموات فيها ولا الأحيا
إذا جاءنا السّجّان يوما لحاجة... عجبنا وقلنا جاء هذا من الدّنيا
حكى مكحول-رحمه الله تعالى-: أنّ عمر-رضي الله عنه-أوّل من حبس في السّجون، وقال: أحبسه؛ حتى أعلم منه التّوبة، ولا أنفيه من بلد إلى بلد، فيؤذيهم. والظاهر: أنّ الأرض في الآية هي أرض النّازلة، وقد تجنّب الناس قديما الأرض التي أصابوا فيها الذّنوب، ومنه حديث الذي قتل تسعا وتسعين.
{أَوْ:} في الآية الكريمة للتقسيم، والتنويع، والترتيب، وقيل: إنّها للتّخيير، فالإمام مخيّر بين هذه الأمور، والمعتمد الأوّل. {ذلِكَ} أي: الجزاء المذكور بأنواعه. {لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا:} لهم ذلّ، وهوان، وفضيحة، ونكال في هذه الحياة الدنيا مع ما ادّخر الله لهم من العذاب الأليم في الآخرة، وهذا يؤيد قول من قال: إنّها نزلت في المشركين، فأمّا أهل الإسلام؛ ففي صحيح مسلم عن عبادة بن الصامت-رضي الله عنه-قال:«أخذ علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كما أخذ على النّساء: ألاّ نشرك بالله شيئا، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل، ولا يعضه بعضنا بعضا-يرمي غيره بالإفك، والكذب، والبهتان-قال: فمن وفى منكم؛ فأجره على الله تعالى، ومن أصاب من ذلك شيئا، فعوقب؛ فهو كفّارة له، ومن ستره الله؛ فأمره إلى الله إن شاء عذّبه، وإن شاء عفا عنه».
وعن عليّ-كرّم الله وجهه-قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من أصاب في الدّنيا ذنبا، فعوقب به؛ فالله أعدل من أن يثنّي عقوبته على عبده، ومن أذنب ذنبا في الدّنيا، فستره الله عليه؛ فالله أكرم من أن يعود عليه في شيء قد عفا عنه». رواه أحمد، والترمذي، وابن ماجة برقم [٢٦٠٤].
وقال ابن جرير:{وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ} أي: إذا لم يتوبوا من فعلهم ذلك حتى هلكوا، فلهم في الآخرة مع الجزاء الّذي جازيتهم به في الدنيا، والعقوبة التي فرضتها عليهم عذاب عظيم في الآخرة. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
تنبيه: نزلت الآية الكريمة في ثمانية أشخاص من قبيلتي عكل، وعرينة، قدموا المدينة المنورة، وأظهروا الإسلام نفاقا، فأقاموا فيها أياما، فمرضوا؛ لأنّ المدينة لا تقبل من كان في