فإنّ لله تعالى أسرارًا في خلقه، يهب من يشاء منهم علمًا وحكمةً وفضلًا، ويجعل من يشاء عقيمًا عن إدراك المعاني، عاقرًا عن إنتاج الأفكار! وقد خصّ الله تعالى أهل الفقه بمزيّة الابتكار، والنظر في الأدلة والنصوص والواقع وبناء الأحكام والفتاوى، وكم من فقيه بلغ رتبة الاجتهاد والنظر والترجيح على مرّ العصور، فلم يَفتْ هذه الأمّةَ نفعُه، بل وصل علمُهُ فكُتِبَ صدقةً جاريةٌ ممّا يُنتَفَعُ به.
إنّ أمّة اصطفاها الله تعالى فختمَ بها الأمم؛ وجعلها خيرَ أمّةٍ أخرجت للناس، وكتب لها بفضلِهِ شهادةً على العالمين: لا يُمكنُ أن تضِلَّ بمجموعها، وإلا لانتفى حفظُ الذكرِ على يدها، ولكانت كغيرها مُحتاجَةً إلى تجديدِ الرسالةِ والعهدِ السماويِّ، فلمَّا انتفى ذلك تيقَّنَّا أن إجماعَها على أمرٍ يفيدُ صوابَهُ، وأنَّ اتفاق العقلاءِ فيها على رأي يعني قربَه مِنَ الحق.
وممّا هو معلومٌ لكلّ طالب علمٍ أنّ مذاهبَ الفقه الأربعةَ التي هي محلّ إجماع المسلمين وغاية مرجعيَّتهم في كلّ عصر؛ كانت نَتاجَ مدارسَ فكريّةٍ وأصوليّةٍ،