ذلك تعمدًا مع علمه بأن الذي قاله غير صواب. وقد وقع مع جماعة من السلف من هذا الجنس ما لا يأتي عليه الحَصر وصار ذلك مذاهب تُروى وأقوال تُحكى كما يعرف ذلك من يعرفه.
[رابعًا: التعصب للآباء والأجداد]:
ومن الأسباب المقتضية للتعصب: أن يكون بعض سلف المشتغل بالعلم قد قال بقول ومال إلى رأي، فيأتي هذا الذي جاء بعده فيحمله حب القرابة على الذهاب إلى ذلك المذهب والقول بذلك القول، وإن كان يعلم أنه خطأ، وأقل الأحوال إذا لم يذهب إليه أن يقول فيه أنه صحيح ويتطلب له الحجج ويبحث عما يقوّيه وإن كان بمكان من الضعف ومحل من السقوط، وليس له في هذا حظ ولا معه فائدة، إلّا مجرد المباهاة لمن يعرفه والتزيّن لأصحابه بأنه في العلم معرق وإن بيته قديم فيه. ولهذا ترى كثيرًا منهم يستكثر من: قال جدنا، قال والدنا، اختار كذا، صنع كذا، فعل كذا. وهذا لا شك أن الطباع البشرية تميل إليه ولا سيما طبائع العرب فإن الفخر بالأنساب والتحدث بما كان للسلف من الأحساب يجدون فيه من اللذة ما لا يجدونه في تعدد مناقب أنفسهم، ويزداد هذا بزيادة شرف النفس وكرم العنصر ونبالة الآباء، ولكن ليس من المحمود أن يبلغ بصاحبه إلى التعصب في الدين، وتأثير الباطل على الحق، فإن اللذة التي يطلبها والشرف الذي يريده قد حصل له بكون من سلفه ذلك العالم، ولا يضيره أن يترك التعصب له ولا يمحق عليه شرفه بل التعصب - مع كونه مفسدًا للحظ الآخروي - يفسد عليه أيضًا الحظ الدنيوي، فإنه إذا تعصّب لسلفه بالباطل، فلا بد أن يعرف كل من له فهم أنه متعصب، وفي ذلك عليه من هدم الرفعة التي يريدها والمزية التي يطلبها ما هو أعظم عليه وأشد من الفائدة التي يطلبها، بكون له قريب عالم. فإنه لا ينفعه صلاح غيره مع فساد نفسه. وإذا لم يعتقد فيه السامع التعصب