على ذلك رأي رآه وتدبير دبّره ثم تبين له فساده، فانظر أرشدك الله ما مقدار ما قاله هذا القائل في ذلك الجمع الحافل الذي شمل الإمام وجميع المباشرين للأعمال الدولية والناظرين في أمر الرعية. ولم ينتفع هذا القائل بمقالته لا بزيادة جاه ولا مال، بل غاية ما استفاده ونهاية ما وصل إليه اجتماع الألسن على ذمّه، واستعظام الناس لما صدر منه.
وهكذا جرت عادة الله في عباده فإنه لا ينال من أراد الدنيا بالدين، إلّا وبالًا وخسرانًا عاجلًا وآجلًا، خصوصًا من كان من الحاملين لحجة الله المأمورين بإبلاغها إلى العباد. فإن خيره في الدنيا والآخرة مربوط بوقوفه على حدود الشريعة فإن زاغ عنها زاغ عنه. وقد صرح الله سبحانه بما يفيد هذا في غير موضع من كتابه العزيز. فأنت أيها الحامل للعلم لا تزال بخير ما دمت قائمًا بالحجة مرشدًا إليها ناشرًا لها غير مستبدل بها عرضًا من أعراض الدنيا أو مرضاةً من أهلها.
[ثالثًا: الجدل والمراء وحب الظهور والغلب]:
ومن جملة الأسباب التي يتسبب عنها ترك الإنصاف وكتم الحق وغمط الصواب ما يقع بين أهل العلم من الجدال والمراء فإن الرجل قد يكون له بصيرة وحسن إدراك ومعرفة بالحق ورغوب إليه، فيخطئ في المناظرة ويحمله الهوى ومحبة الغلب وطلب الظهور على التصميم على مقاله، وتصحيح خطئه وتقويم معوجّه بالجدال والمراء. وهذه الذريعة الإبليسية والدّسيسة الشيطانية قد وقع بها من وقع في مهاو من التعصبات ومزالق من التعسفات عظيمة الخطر مخوفة العاقبة. وقد شاهدنا من هذا الجنس ما يقضي منه العجب، فإن بعض من يسلك هذا المسلك لا يجاوز ذلك إلى الحلف بالإيمان على حقيقة ما قاله وصواب ما ذهب إليه. وكثيرًا منهم يعترف بعد أن تذهب عنه سورة الغضب وتزول عنه نزوة الشيطان بأنه فعل