للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قوله والمملوكية تنافي المالكية لأنّ المملوكيّة أثر المقهورية والمالكيّة أثر القاهريّة فبينهما تضاد وتناف.

فإن قلت: إنّما يثبت التنافي إذا لم يكن من جهتين مختلفتين وههنا من جهتين مختلفتين فجاز أن يجتمعا وذلك لأنّ المرأة مالكة بجهة ملك اليمين فجاز أن تكون هي مملوكة لعبدها بجهة النكاح كالأب يكون ابنًا لأبيه.

قلت: ليس هذا نظيره لأنّ هناك اجتمعت الأبوّة والبنوّة في حق شخص واحد لكن باعتبار شخصين مختلفين وهنا في حق شخص واحد وهو المرأة/ باعتبار شخص واحد وهو العبد فيقع التّنافي ولأنّ المرأة بجميع أجزائها مالكة لعبدها فلو جاز النكاح بينهما يكون نصفها مملوكًا لعبدها فباعتبار مالكيّتها يمتنع عن تسليم نصفها وباعتبار مملوكيتها لا يتمكن من الامتناع.

فحينئذ يمتنع ولا يمتنع فيتحقّق التّنافي ويجوز تزويج الكتابيات لقوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} (١) أي العفايف (٢) وإنّما فسّره بهذا احترازًا عن قول ابن عمر -رضي الله عنهما - فإنّه فسّر المحصنات بالمسلمات.

فإن قلت: أهل الكتاب مشركون قال الله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} (٣) إلى قوله تعالى: {سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (٤) وقد ذكر في التيسير والكشّاف (٥) أنّ اسم أهل الشرك يقع على أهل الكتاب ثم ذكر بعد هذا في الكتاب فلا يجوز تزويج المجوسيّات ولا الوثنيّات لقوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} (٦) فلم يجز هناك نكاح أهل الشرك لإشراكهم وقد أجاز هنا نكاح أهل الكتاب مع أنّهم مشركون على ما ذكرنا فما وجه التّوفيق بين الآيتين والروايتين.

قلت: فيه وجهان:

أحدهما: ما ذكره في الْمَبْسُوطِ (٧)، وهو أنّ اسم المشرك لا يتناول الكتابي مطلقاً، فإنّ الله تعالى عطف المشركين على أهل الكتاب في قوله: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ} (٨) وغيره علم أنّ معنى الإشراك صار معلومًا (٩) فيهم فلم يلتفت لوجوده فكان ابن عمر -رضي الله عنهما- لا يجوّز ذلك ويقول أن الكتابية مشركة وقد قال الله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} (١٠) فكان معنى قوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} (١١) أي واللاتي أسلمن من أهل الكتاب ولسنا نأخذ بهذا لما ذكرنا من أنّ الله تعالى عطف المشركين على أهل الكتاب ولأنّا لو حملنا الآية على ما قال ابن عمر لم يكن لتخصيص الكتابية بالذكر معنى فإن غير الكتابية إذا أسلمت حلّ نكاحها أيضاً وقد جاء عن حذيفة -رضي الله عنه- أنه تزوّج يهوديّة، وكذلك كعب بن مالك -رضي الله عنه- (١٢).


(١) سورة المائدة من الآية: ٥.
(٢) يُنْظَر: الهداية شرح البداية (١/ ١٩٣).
(٣) سورة التوبة من الآية: ٣٠.
(٤) سورة التوبة من الآية: ٣١.
(٥) يُنْظَر: الكشاف (١/ ٣٦٠، ٥٩٦).
(٦) سورة البقرة من الآية: ٢٢١.
(٧) يُنْظَر: الْمَبْسُوطِ (٤/ ٢١٠).
(٨) سورة البيِّنة من الآية: ١.
(٩) وفي (ب): (مغلوبا).
(١٠) سورة البقرة من الآية: ٢٢١.
(١١) سورة المائدة من الآية: ٥.
(١٢) أخرجه سعيد بن منصور (١/ ٢٢٤)، وعبد الرزاق الصنعاني (٦/ ٧٨)، مصنف ابن أبي شيبة (٤/ ٢/ ١٥٨)، سنن البيهقي) (٧/ ١٧٢). صحيح من حديث أبي وائل يُنْظَر: الإرواء برقم (١٨٨٩) أحرجه أبو عبيد القاسم بن سلام في الناسخ والمنسوخ ص (٩٠ - ٩١) رقم (١٥٦)، وابن جرير في تفسيره (٤/ ٣٦٦) - (٣٦٧) بلفظ قريب. وقال ابن كثير عن إسناده: (وهذا إسناد صحيح) تفسير القرآن العظيم (٢/ ٥٤٠).