فقد جاء في هذا الحديث أنهم لما قدموا المدينة ولما رأوا النبي -صلى الله عليه وسلم- نزلوا عن رواحلهم وتقدموا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يسلمون عليه ويقبلون قدميه (١) ولم يرو أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهاهم عن ذلك التقبيل أو كرهه كما كره القيام له عند قدومه عليهم الوارد في حديث آخر، وهذا إن دلَّ على شيءٍ فهو أن تقبيل الركبتين من الولد لإحدى والديه أو لهما معاً غير مكروه شرعاً لأنه لو كان مكروهاً أو محظوراً لكان النبي -صلى الله عليه وسلم- منعهم من ذلك، والأحسن في مثل هذا أن يجمع بين حجة من يقول أن تقبيل الركبتين مشروع وبين من يقول بأنه ممنوع بأن يقال لا يشرع الاستمرار على تقبيل ركبتي الوالدين والمحافظة على ذلك التقبيل على الصفة التي كانت معتادة عند الكثير من الناس في كل مناسبة بحيث أن من اعتاد ذلك التقبيل يعد نفسه باراً بوالديه، ومن لم يعمل عمله لا يعد من البارين لوالده أو لوالدته أو لهما جميعاً لأنه لو كان ذلك مشروعاً على جهة الدوام لكان أهل بيت النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه أحق الناس به، ولكانوا هم السابقين إلى مثل هذا التعظيم والاحترام، ولكن إذا أحب أحد الأولاد أن يعبر عن حبه لوالدته أو لوالده أو لهما معاً في بعض المناسبات مثل أيام الأعياد أو عند قدوم أحدهما أو قدومه هو من السفر أو في أيِّ مناسبة من المناسبات فيقبل ركبتي والدته أو والده أو يقبل ركبتي كل واحد من والديه من غير أن يجبراه على ذلك فلا مانع له من ذلك ولا يسمى بفعله مبتدعا ما دام ولم يكن فعله هذا على جهة الدوام والاستمرار ولا بأمر منهما أو من أحدهما وإنما يعمل ذلك نادراً بلا أمر، وإنما صدر منه ذلك من نفسه تعبيراً عن خالص حبه وشوقه إليهما أو إلى أحدهما ولا يقال لمن عمل هذا العمل نادراً أنه عاص أو آثم لأنه لو كان التقبيل على هذه الصفة من العصيان لما أقر النبي -صلى الله عليه وسلم- وفد عبد القيس عليه لأنه لا يقر أحداً على أيِّ معصية أو إثم أو على أيِّ شيء مناف للشريعة المحمدية الغراء، وإذا قلنا أنه لا يسمى بفعله هذا مبتدعاً ولا عاصياً فبالأولى والأحرى لا يسمى بفعله هذا مشركاً بالله على حد ما جاء في السؤال بأن من يقول بأن من يقبل ركبتي والديه أو من ينحني لتقبيل والديه مشركا بالله لأن الحكم على أحد المسلمين بأنه مشرك عظيم الخطر، لأن التكفير للمسلم يحتاج إلى دليل قطعي لأن كونه مسلماً مقطوع به ولا يجوز إخراج المسلم من إسلامه المقطوع به إلى الكفر والشرك بالله إلا بيقين أو بدليل قطعي، أي أن من كنا على يقين من إسلامه فلا يخرجه من إسلامه المتيقن إلا بيقين ولا يوجد دليل ظني يدل على أن من قبَّل ركبتي والديه فقد أصبح مشركاً فضلاً عن دليل قطعي يدل على ذلك، وهذا كله إن صح أن هناك من يزعم أن تقبيل ركبتي الوالدين شرك وأن من قبل ركبتيهما يكون بفعله هذا مشرك بالله، وكيف يكون مشركاً وهذا التقبيل قد عمله وفد عبد القيس ولم ينههم النبي عن ذلك بل أقرهم وحاشاه من أن يقر أحداً على فعل هو من الشرك بالله -سبحانه وتعالى-، والحاصل أن الناس في هذه المسألة ما بين الإفراط والتفريط والصواب هو التوسط ما بين الإفراط والتفريط.
أي من الناس من يظن أن تقبيل الولد ركبتي والديه مندوب أو واجب أو أنه من كمال الطاعة وهذا الظن ليس عليه دليل ولم يرد ما يدل على مشروعيته من قول النبي -صلى الله عليه وسلم- أو فعله أو تقريره على أنه مشروع على جهة الندب أو الوجوب، ولا روي عن أحد من أهل بيته -صلى الله عليه وسلم- أو عن أحد من أصحابه أنه كان يعمله أو يقول بأنه
(١) - زيادة تقبيل الأقدام مروية في تاريخ البخاري وليس هي في صحيح البخاري ولا في أيِّ كتاب من كتب الأحاديث الصحيحة، ولعدم ذكرها في الأحاديث الصحيحة فهي ضعيفة ولا يجوز الاستدلابها على جواز تقبيل الأقدام.