للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[١٣٩/ ب] ثم إذا دخل مصره أتمّ الصلاة، وإن لم ينو المقام فيه؛ لأنّ نيّة الإقامة إنّما تعتبر لصيرورته مقيمًا في مصر غيره لا في مصر نفسه؛ لأنّ مكثه ومقامه في مصر غيره متردّد بين أن يكون لمكان السَّير وبين أن يكون للمقام فيه، فاحتيج إلى النيّة؛ ليتعيّن المكث لإقامة، فأمّا مكثه في مصره متعيّن (١) للإقامة؛ لأنّ قبل السّير كان يمكث للإقامة لا للسير، فكذا بعده، وهذا إذا/ كان المصر وطنه الأصلي، وأمّا إذا كان وطن إقامة، فلا يتمّ الصلاة بمجرد الدخول فيه بعد إنشاء السّفر، وإن لم يستكمل ثلاثة أيام بالسير على ما يجيء بيانه.

قوله: -رحمه الله- (عدّ نفسه بمكة من المسافرين) (٢) أي: قال بعد فراغه من الصلاة فإنّا قوم سفر؛ وهذا لأن الأصل أن الوطن الأصلي يبطل بمثله دون السّفر، أي: الوطن الأصلي يبطل بالوطن الأصلي، ولا يبطل بالسّفر، فيحتاج هاهنا إلى بيان الأوطان، فعبارة عامة المشايخ في ذلك: أنّ الأوطان ثلاثة: وطن أصلي وهو: مولد الرجل، أوالبلد الذي تأهّل به، ووطن سفر وقد يسمّى وطن إقامة، وهو: البلد الذي ينوي المسافر الإقامة فيه خمسة عشر يومًا، أو أكثر، ووطن سكنى وهو: البلد الذي ينوي المسافر الإقامة فيه أقلّ من خمسة عشر يومًا، ثم من حكى الوطن الأصلي أن ينتقض بالوطن الأصلي؛ لأنه مثله حتّى لو انتقل من البلد الذي تأهّل به بأهله، وتوطّن ببلدة أخرى لا تبقى البلدة المنتقل عنها وطنًا له، ألا ترى أن مكة كانت وطنًا أصليًّا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم لمّا هاجر منها إلى المدينة بأهله وتوطّن، ثم انتقض وطنه بمكة حتّى قال عام حجة الوداع: «أتّموا صلاتكم يا أهل مكة فإنَّا قوم سفر» (٣)، ولا ينتقض هذا الوطن بوطن السّفر، ولا يوطن السّكنى؛ لأنّ كل واحد منها دونه، وكذلك لا ينتقض بإنشاء السّفر، فإنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخرج من المدينة إلى الغزوات مرارًا، ولم ينتقض وطنه بالمدينة حتّى لم يجدّد نية الإقامة بعد رجوعه، ولو كان له أهل ببلدة، فاستحدث في بلدة أخرى عن أهل [آخر] (٤) كان كلّ واحد منهما وطنًا أصليًّا له، روي: «أنّه كان لعثمان - رضي الله عنه - أهل بمكة، وأهل بمدينة، وكان يُتم الصلاة بهما جميعًا» (٥)، ومن حكم وطن السّفر أنّه ينتقض بالوطن الأصلي؛ لأنّه فوقه، وينتقض بوطن السّفر؛ لأنّه مثله، وينتقض بإنشاء السّفر؛ لأنّه ضدّه، ولا ينتقض بوطن السّكنى؛ لأنّه دونه، ومن حكم وطن السّكنى أنّه ينتقض بكل شيء بالوطن الأصلي، وبوطن السّفر، وبوطن السكنى، وبإنشاء السّفر، وعبارة المحققين من مشايخنا: أن الوطن وطنان: وطن أصلي، ووطن سفر، وهو وطن الإقامة، ولم يعتبروا وطن السّكنى وطنًا، وهو الصحيح؛ لأنّه لم يثبت فيه حكم الإقامة، بل حكم السفر فيه باقٍ (٦)، فلذلك لم يذكر وطن السكنى في الكتاب بيان هذا الأصل من المسائل:


(١) في (ب): "فيتعين".
(٢) ينظر: الهداية شرح البداية: ١/ ٨١.
(٣) الحديث سبق تخريجه (ص ١٢٤). وقال ابن تيمية في (الفتاوى الكبرى: ٢/ ٣٣٩): نقل أنه قال ذلك في غزوة الفتح لما صلى بهم داخل مكة، وكذلك كان عمر يأمر أهل مكة بالإتمام إذا صلى بهم في البلد، وأما بمنى فلم يكن يأمرهم بذلك.
(٤) [ساقط] من (ب).
(٥) ذكره برهان الدين. ينظر: المحيط البرهاني: ٢/ ١٠٤.
(٦) ينظر: العناية شرح الهداية ٢/ ٤٣، ٤٤.