للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

نَصَّ على ذلك في المقدمة (١) ووصفه شمس الدين السخاوي بأنه "كتاب حافل" (٢). ومع كل ذلك فإنَّ هذا الوجه من حياة الذهبي العلمية هو أضعف الوجوه وأقلها آثارًا.

على أنَّ مكانة الذهبيِّ العلمية وبراعته تظهران في أحسن الوجوه إشراقًا وأكثرها تألقًا عند دراستنا له مُحَدِّثًا يعنى بهذا الفن، فقد مهر الذهبيُّ في علم الحديث وجمع فيه الكتب الكثيرة "حتى كان أكثر أهل عصره تصنيفًا" (٣). وقد رأينا إقباله العظيم عليه وشَرَهه لسماعِه وذاك العدد الضخم من الشيوخ الذين حوتهم معجماتُ شيوخِه الثلاثة والكتب والأجزاء والمجاميع الكثيرة التي قرأها على الشيوخ أكثر من مرة. وقد فَتحتْ له هذه المعرفةُ الواسعة آفاقًا عظيمةً في هذا الفن فاختصر عددًا كبيرًا من الكتب وألَّفَ عددًا أكبر يستبينه الباحثُ عند إلقائِه نظرةً على قائمةِ مؤلفاتِه في هذا المجال. كما ألف في مصطلح الحديث كتبًا، وخرَّجَ التخاريجَ الكثيرة من الأربعينات، والثلاثينات، والعوالي، والأجزاء، ومعجمات الشيوخ، والمشيخات، وغيرها مما فَصَّلْنَا القولَ فيه عند كلامنا على آثاره.

ومع أن الذهبي قد عاش في عصرٍ غَلَبَ عليه الجمودُ والنقلُ والتلخيص، فإنه قد تخلَّص من كثيرٍ من ذلك بفضل سعة دراساته وفطنته، قال تلميذه صلاح الدين الصفدي المتوفى سنة ٧٦٤ هـ: "لم أجدْ عنده جُمودَ المحدثين ولا كودنة (٤) النَّقَلَةِ بل هو فقيهُ النظر له دُرْبةٌ بأقوالِ الناس ومذاهب الأئمة من السلف وأرباب المقالات. وأعجبني منه ما يعانيه في تصانيفه من أنَّه لا يتعدى حديثًا يورده حتى يُبَيِّنَ ما فيه من ضَعْفِ متنٍ أو ظلامِ إسنادٍ أو طعن في رواته، وهذا لم أر غيره يراعي هذه الفائدة فيما يورده" (٥).

إن هذه البراعة في علم الحديث والتمكن منه ذاك التمكن، جعلت الذهبيَّ ينطلق بعد ذلك يُجَرِّحُ، ويُعَدِّلُ، ويفرع، ويصحح، ويعلل، ويستدرك على


(١) المصدر نفسه، ج ١ ص ٣.
(٢) الإعلان، ص ٥٦٤.
(٣) ابن حجر: الدرر، ج ٣ ص ٤٢٦.
(٤) الكودنة: البلادة.
(٥) الوافي، ج ٢ ص ١٦٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>