أخبارهم ثم يبحثون أشد البحث حتى يعرفوا الأحفظ فالأحفظ والأطول فالأطول مجالسة لمن فوقه، فمن كان أقصر مجالسة، ثم يكتبون الحديث من عشرين وجها وأكثر حتى يهذبوه من الغلط والزلل ويضبطوا حروفه ويعدوه عدا. وفي «سراج المريدين» للقاضي أبي بكر بن العربي المعافري ما نصه: «والله أكرم هذه الأمة بالإسناد، لم يُعطَهُ أحد غيرها، فاحذروا أن تسلكوا مسلك اليهود والنصارى فتحدثوا بغير إسناد فتكونوا سالبين نعمة الله عن أنفسكم، مطرقين للتهمة إليكم، وخافضين لمنزلتكم، ومشتركين مع قوم لعنهم الله وغضب عليهم، وراكبين لسنتهم». (١)
• ولذلك اعتنى الأوائل والأواخر بالإسناد حفظا وتأليفا، فكثرت المؤلفات فيه، حتى انسلخ من علوم الحديث علم مستقل عرف بعلم الأثبات أو المشيخات أو الفهارس أو البرامج أو المعاجم، وهي التي يدوّن فيها المؤلف أسماء شيوخه ومَن أخذوا عنهم إلى رسول الله ﷺ أو إلى كتاب من كتب الحديث أو غيره، أو غير ذلك من فنون التصنيف في علوم الإسناد وأغراضها العجيبة اللطيفة.
• وكان اهتمام المتأخرين بكتب الفهارس أو المشيخات أوسع وأوعب من المتقدمين، وذلك للحاجة الماسة بعد تفرع الطرق وكثرة المشايخ والآخذين عنهم ومنهم، فانصرف العلماء لجمع وترتيب مرويات كل شيخ وتهذيبها، في الأزمنة المتأخرة، حفاظا على الطرق من التداخل والروايات من الزيادة والنقصان، وزيادةً في ضبط تراجم الأئمة الأعلام ونقد بعض ما يلصق بهم من مكذوب المرويات، ومقارنة مروياتهم بمرويات غيرهم سبرا وتقسيما، لتحري الصواب في الروايات والمشايخ والتواريخ وغير ذلك من الأغراض الجليلة.
وأما المغاربة فاهتموا بالأثبات والفهارس اهتماما فريدا واهتبلوا به على قدر اهتبالهم بعلوم الشريعة عموما وبالحديث النبوي على وجه الخصوص، ولذلك كثرت مؤلفاتهم فيه، خاصة أن كثيرا منهم رحلوا في طلب الروايات وعالي الأسانيد لدرجة
(١) انظر «فهرس الفهارس والأثبات» للعلامة عبد الحي الكتاني ١/ ٨٠.