واقعة، وأما رؤية النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، فذاك لدليل آخر، وَقَدْ صرح مسلم فِي روايته، منْ حديث أبي إمامة -رضي الله عنه- بقوله -صلى الله عليه وسلم-: "واعلموا أنكم لن تروا ربكم حَتَّى تموتوا".
وَقَالَ الحافظ ابن رَجَب رحمه الله تعالى فِي "شرح البخاريّ": وأما الإحسان ففسّره بنفوذ البصائر فِي الملكوت حَتَّى يصير الخبر للبصيرة كالعيان، فهذه أعلى درجات الإيمان، ومراتبه، ويتفاوت المؤمنون، والمحسنون فِي تحقيق هَذَا المقام تفاوتًا كثيرًا بحسب تفاوتهم فِي قوة الإيمان والإحسان، وَقَدْ أشار النبيّ -صلى الله عليه وسلم- إلى ذلك هاهنا بقوله:"أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك". قيل: المراد أن نهاية مقام الإحسان أن يعبد المؤمن ربه كأنه يراه بقلبه، فيكون مستحضرًا ببصيرته وفكرته لهذا المقام، فإن عجز عنه، وشقّ عليه انتقل إلى مقام آخر، وهو أن يعبد الله عَلَى أن الله يراه، ويطّلع عَلَى سره، وعلانيته، ولا يخفى عليه شيء منْ أمره. وَقَدْ وصّى النبيّ -صلى الله عليه وسلم- طائفة منْ أصحابه أن يعبدوا الله كأنهم يرونه، منهم ابن عمر، وأبو ذرّ -رضي الله عنهم-، ووصّى معاذًا -رضي الله عنه- أن يستحيي منْ الله كما يستحيي منْ رجل ذي هيبة منْ أهله. قَالَ بعض السلف: منْ عمل لله عَلَى المشاهدة، فهو عارف، ومن عمل عَلَى مشاهدة الله إياه فهو مخلص. فهذان مقامان:[أحدهما]: مقام المراقبة، وهو أن يستحضر العبد قرب الله منه، واطّلاعه عليه، فيتخايل أنه لا يزال بين يدي الله تعال، فيراقبه فِي حركاته، وسكناته، وسرّه، وعلانيته، فهذا مقام المراقبين المخلصين، وهو أدنى مقام الإحسان. [والثاني]: أن يشهد العبد بقلبه ذلك شهادة، فيصير كأنه يرى الله، ويُشاهده، وهذا نهاية مقام الإحسان، وهو مقام العارفين، وحديث حارثة -رضي الله عنه- هو منْ هَذَا المعنى (١)، فإنه قَالَ: كأني أنظر إلى عرش ربي بارزًا، وكأني أنظر إلى أهل الجنّة يتزاورون فيها، وإلى أهل النار يتعاوون فيها، فَقَالَ النبيّ -صلى الله عليه وسلم- "عرفت، فالزم، عبدٌ نوّر الله الإيمانَ فِي قلبه". وهو حديث مرسلٌ، وَقَدْ روي مسندًا بإسناد ضعيف. وكذلك قول ابن عمر لعروة لَمّا خطب إليه ابنته فِي الطواف، فلم يردّ عليه، ثم لقيه، فاعتذر إليه، وَقَالَ: كنا فِي الطواف نتخايل الله بين أعيننا. ومنه الأثر الذي ذكره الفضيل بن عياض: يقول الله: ما أنا مطّلع عَلَى أحبابي إذا جنّهم الليل، جعلت أبصارهم فِي قلوبهم، ومَثَلتُ نفسي بين أعينهم، فخاطبوني عَلَى المشاهدة، وكلّموني عَلَى حضوري.