يعفه اللَّه: أي يجعله عفيفًا، من الإعفاف، وهو إعطاء العفّة، وهي الحفظ عن المناهي، يعني من قنع بأدنى قوت، وترك السؤال تَسهُل عليه القناعة، وهي كنز لا يفنى انتهى. وقال ابن التين: معناه إما أن يرزقه من المال ما يستغني به عن السؤال، وإما أن يرزقه القناعة انتهى (١).
وزاد في رواية الشيخين:"ومن يستغن يغنه اللَّه". أي من يستغن باللَّه تعالى عمن سواه، أو يُظهِر الغنى بالاستغناء عن أموال الناس، والتعفّف عن السؤال، حتى يحبسه الجاهل بحاله غنيًّا من التعفّف، يرزقه اللَّه غنى القلب، ففي الصحيح:"ليس الغنى عن كثرة العرض، وإنما الغنى غنى النفس". ولو حُمل على غنى المال لما بَعُد، أي يعطيه اللَّه تعالى ما يُغنيه عن سؤال الناس. واللَّه تعالى أعلم.
(وَمَنْ يَصْبِرْ)"من" شرطية كسابقتها، و"يصبر" بفتح الياء، وكسر الباء ثلاثيًّا، من باب ضرب، وفي رواية:"يتصبّر" بفتح الفوقية، وتشديد الموحّدة المفتوحة: أي يعالج الصبر على ضيق العيش وغيره، من مكاره الدنيا. وقال السنديّ: أي يتكلف في تحمّل مشاقّ الصبر، وفي التعبير بباب التكلّف إشارة إلى أنّ مَلَكَة الصبر تحتاج في الحصول إلى الاعتبار، وتحمّل المشاقّ من الإنسان. وقال القاري: أي يطلب توفيق الصبر من اللَّه تعالى؛ لأنه تعالى قال:{وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ}[النحل: ١٢٧]، أو يأمر نفسه بالصبر، ويتكلّف في التحمّل عن مشاقه، وهو تعميم بعد تخصيص؛ لأن الصبر يشتمل على صبر الطاعة، والمعصية، والبليّة. أو من يتصبّر عن السؤال، والتطلّع إلى ما في أيدي الناس بأن يتجرّع مرارة ذلك، ولا يشكو حاله لغير ربّه (يُصَبِّرْهُ اللَّهُ) بضمّ أوّله، وتشديد الموحّدة المكسورة، من التصبير: أي يُسَهِّل عليه الصبر، فتكون الجمل مؤكّدات. ويؤيّد إرادة معنى العموم قوله الآتي:"وما أعطي أحد الخ". وقال الباجيّ: معناه من يتصدّ للصبر، ويؤثره يعينه اللَّه تعالى عليه، ويوفّقه انتهى.
(وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ) ببناء الفعل للمفعول، و"أحد" نائب فاعله، وهو المفعول الأول. وقوله (عَطَاءَ) بالنصب هو المفعول الثاني (هُوَ خَيْرٌ) أي أفضل، والجملة في محلّ نصب صفة لـ "عطاء". وفي رواية البخاريّ "خيرًا" بالنصب، وإسقاط لفظ "هو"، فيكون صفة لـ "عطاء" أيضًا (وَأَوْسَعُ) بالرفع عطفًا على "خيرٌ". وقوله (مِنَ الصَّبْرِ) تنازعاه "خير"، و"أوسع". ثم إن الكلام على تقدير "مِنْ ": أي الصبر من أفضل ما يعطاه أحد، وأوسعه؛ لأن الإيمان أفضل الجميع، حيث إنه لا اعتداد بالصبر وغيره إلا بالإيمان،