السكر فيهم عمله، وبلغ الشيطان منهم أمنيته وأمله، واستفزهم بصوته وحيله، وأجلب عليهم برجله وخيله، وخز في صدورهم وخزًا، وأَزَّهم إلى ضرب الأرض بالأقدام أزًّا، فطورًا يجعلهم كالحمير حول المدار، وتارة كالذباب ترقص وسط الدمار.
فيا رحمتا للسقوف والأرض من دكِّ تلك الأقدام، ويا سوأتا من أشباه الحمير والأنعام، ويا شماتة أعداء الإسلام بالذين يزعمون أنهم خواص الإسلام، قضوا حياتهم لذة وطربًا واتخذوا دينهم لهوًا ولعبًا، مزامير الشيطان أحب إليهم من استماع سور الرحمن، لو سمع أحدهم القرآن من أوله إلى آخره لما حرك ساكنًا، ولا أزعج له قاطنًا، ولا أثار فيهم وَجْدًا، ولا قدح فيه من لواعج الشوق إلى الله زندًا حتى تُلِيَ عليه قرآنُ الشيطان، وولج مزموره سمعه، تفجرت ينابيع الوجد من قلبه على عينيه فَجَرَت، وعلى أقدامه فرَقَصت، وعلى يديه فصَفَّقت، وعلى سائر أعضائه فاهتزت وطربت، وعلى أنفاسه فتصاعدت، وعلى زمراته فتزايدت، وعلى نيران أشواقه فاشتعلت.
فيا أيها الفاتن المفتون، والبائع حظه من الله بنصيبه من الشيطان صفقة خاسر مغبون، هَلَّا كانت هذه الأشجان عند سماع القرآن؟ وهذه الأحوال السَّنيات عند تلاوة السور والآيات؟ ولكن كل امرئ يصبو إلى ما يناسبه، ويميل إلى ما يشاكله، والجنسية علة الضم قدرًا وشرعًا، والمشاكلة سبب الميل عقلًا وطبعًا، فمن أين هذا الإخاء والنسب؟ لولا التعلق من الشيطان بأقوى سبب، ومن أين هذه المصالحة التي أوقعت في عقد الإيمان وعهد الرحمن خللًا؟ قال تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا﴾ [الكهف: ٥٠](١).
وأوضح ابن القيم أقسام الناس في سماع القرآن والغناء؛ فقال:
«والناس في السماع أربعة أقسام:
أحدها: مَنْ يشتغل بسماع القرآن عن سماع الشيطان.
الثاني: عكسه (مَنْ يشتغل بسماع الشيطان عن سماع القرآن).