للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث / الرقم المسلسل:

أحدٍ ما فيه. ومعلوم أنَّ النفوس فيها الشهوات كامنة، ولكنها مقهورة مقيَّدةٌ لا بقيود الأوامر، فإذا صادفها السماع أحياها وأطلقها من قيودها، وافْتكَّها من أَسْرها، وأجلب عليها بكل مُعِين ومُمِدّ. وهذا أمر لا ينكره إلا أحد رجلين: إما غليظ كثيف الحجاب، وإما مكابر. فمضرة هذا السماع على النفوس أعظم من مضرَّة حُمَيّا الكُؤوس.

ولما كانت المفسدة فيه ظاهرة معلومة، أخرجه أهلُه في قالَبٍ يُلطِّف ما فيه من المنكر، فجمعوا عليه أخلاطًا من الناس، وقالوا: إنَّ هذا الاجتماع شبكةٌ نصطاد بها النفوسَ إلى التوبة، ونسوقُها بها إلى الله والدار الآخرة. ونعم واللهِ هو شبكة وأيُّ شبكة! يصطاد بها الشيطانُ النفوسَ المُبطِلة إلى ما هو أعظم من المعاصي الظاهرة، ويقودها بها إلى الغيّ والهوى، فلهذا نصَبه (١) هؤلاء الفسَّاق من المخانيث والزُّناة وعُشّاق الصور، فجعلوه شبكة لهم لصيدِ الأَغْيَد والغَيْداء والغَزَالِ والغزالة، ووضعوه على ما يليق بمقاصدهم من الأوضاع، فشرطوا أن يكون المغنِّي أمردَ جميلا، تدعو صورتُه وصوته وشكله ودَلُّه وحركاتُه إلى تعلق القلوب به وعشقه، فإن فاتَ فامرأةٌ كذلك، وإذا جمعَ السماعُ العاشقَ والمعشوقَ، وتقابلَا وتعانَقَا في الرقص:

فظُنَّ شرًّا ولا تسألْ عن الخبرِ

وإذا حضر المُردان الحِسان هذا السماعَ فهو عندهم الغاية، ولاسيما إذا ألبسوهم المُصبغاتِ، وزيَّنوهم كما تُزيَّن العرائسُ، وأخلَوا لهم طابق الرقص، ودار حولهم العشّاق والفسَّاق كالهالة حول القمر، وأداروا عليهم من الأعين النِّطاق، فللشيطان لا للهِ كم من زَعْقةٍ وصَرْخةٍ وزَفْرةٍ وأنَّةٍ وحَسْرة ووَجْدٍ وأسفٍ وحزنٍ، وكم من قلوبٍ تُشقَّق قبل الجيوب، وعبراتٍ تُسكَب في غير رضا علام الغيوب، فيا لها حضرةً ما أحبَّها إلى الشيطان! وما أبغضَها إلى الرحمن!

ويتزايد الأمر حتى يُغنُّوا بأشعارٍ طالما عُصِيَ الله بها في الأرض، من أشعار الفسّاق والفجّار، المتضمنة لتهييجِ النفوس على ما يُبغِضه الله ويَمقُت عليه، ومدْح ما حرَّمه ولعنَ فاعله، والابتهاجِ به، والافتخارِ بنيله، والتَبجُّح بالوصول إليه. وربما تعدَّوا ذلك إلى الغناء بالأشعار الكفرية التي تُحادُّ ما أنزل الله، كأشعار أهل الإلحاد من الاتحادية والحلولية، والأشعار المتضمنة لكثير من ألفاظ القرآن" (١)

فهذه القصائد التي أحدثها هؤلاء المتصوفة لا تخلو من الشرك والغلو في


(١) الكلام على مسألة السماع: ص: ٢٠٧ - ٢١١

<<  <  ج: ص:  >  >>