والحزن والأسف وغير ذلك، وكانوا يشترطون له المكان والإمكان والخلَّان، ويشترطون أن يكون المجتمعون لهذا السماع من أهل الطريق المريدين لوجه الله والدار الآخرة، وأن يكون الشعر المسموع خاليًا عما تَحظُر الشريعةُ سماعَه وتكرهه، وبعضهم كان يشترط أن يكون القوَّال منهم، وبعضهم يشترط كون الذي أنشأ القصيدة من أهل الطريق، إلى غير ذلك من الشروط والأوضاع التي احترزوا بها من مُفسِدات السماع.
ولكن لما كان الأصل غيرَ مشروعٍ آل الأمرُ إلى ما آل إليه من الفساد الذي لا يعلمه إلا الله، لأنَّه من عند غير الله، فليس عليه حارسٌ وحافظ من الله، بل هو بمدرجة كل سالكٍ في الباطل، وهو مجمَعُ المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وأكيلة السَّبُع وما ذُبِح على النُّصُب. ثمّ إنهَّم أضافوا إلى هذا الصوت ما يُنفِّذه ويُوصِله إلى شَغَاف القلب، من الآلات التي أخفُّها التغبير، وهو ضربٌ بقضيب على جلد أو مخدَّةٍ على توقيع خاص، فعظُمَ إنكارُ الأئمة لذلك كالشافعي وأحمد، فقال الشافعي:"هو من إحداث الزنادقة"، وقال أحمد:"بدعة".
ثمّ لم يقتصروا على هذه الحركة، فتعدَّوها إلى حركة الدُّفوف، وهي أقبح من حركة التغبير، وفيها ما فيها، وزيادة التشبه بالنساء، فإنَّ الدفّ في الأصل إنما هو للنساء عادة ورخصة، وقد لعن رسول الله-ﷺ-المتشبّهين من الرجال بالنساء (١).
ثمّ لم يقتصروا على هذه الحركة حتى تعدَّوها إلى حركات الأوتار والعِيْدان، التي هي في الأصل من إحداث الفلاسفة أعداء الرسل، ثمّ ضمُّوا إلى ذلك حركة الرقص، التي سببها استخفاف الشيطان لأحدهم، وركوبه على كتفه، ودقُّه برجليه في صدره، وكلما دقَّه برجليه ورقَص على صدره رقصَ هو كرقص الشيطان عليه، وقد شاهد ذلك بعض أهل البصائر عيانًا، ثمّ ضمُّوا إلى صوت الغناء صوتَ اليَراع والشبابة وغيرها.
فاقتضت هذه الهيئة الاجتماعية حركةً باطنة، فإنَّ استماعَ الأصوات المطربة يُثير حركةَ النفس بحسب تلك الأصوات، وللأصوات طبائع متنوعة بتنوع آثارها في النفس، وكذلك للكلام المسموع نظمه ونثره، فيجمعون بين الصوت المناسب والحرف المناسب، فيتولد من بينهما حركاتٌ نفسية تُثِير كامنَها وتُزعِج قاطنَها، وهذا أمر يشترك فيه بنو آدم من المؤمنين والكفار والأبرار والفجار، ويُثير من قلب كل
(١) كما في الحديث الذي أخرجه البخاري (٥٨٨٥) عن ابن عباس.