بعد أن انتهى المصنف من النقل عن المتصوفة بدأ في ذكر أقوال طائفة أخرى من العلماء؛ منهم الإمام أبو عمر بن عبد البر، وهو إمام معروف من أئمة المالكية، وله بعض التصنيفات في العلوم المختلفة، وعلى رأسها الفقه والحديث، ومن أشهر كتبه:«التمهيد»، و «الاستذكار»، و «جامع بيان العلم وفضله»، وهنا يقول:«روينا عن مالك بن أنس، وسفيان الثوري، وسفيان بن عيينة، والأوزاعي، ومعمر بن راشد في أحاديث الصفات أنهم كلهم قالوا: أمِرُّوها كما جاءت».
فهؤلاء أعلام التابعين ولهم مكانتهم وفضلهم قالوا:«أمروها كما جاءت»، والمقصود: أن هذه النصوص لا تُؤوَّل، ولما ظهر تأويلات الجهمية تصدَّى السلف لها وأبطلوها، وبينوا أن هذه النصوص إنما هي على ظاهرها وعلى ما كانت عليه حقيقة.
فقول أئمة السلف:«أمروها كما جاءت»، وجاء عن بعضهم:«أمروها كما جاءت بها»، فيه رد ما يزعمه البعض من أن السلف لم يُبينوا معاني هذه النصوص، وأنهم آمنوا بها دون فهم لمعانيها.
وليس هناك عاقل يَقبل أن السلف لا يفرقون بين قوله تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه: ٥] وبين قوله ﷺ: «يَنْزِلُ رَبُّنَا ﵎ كلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا»، فأهل السنة يؤمنون أن النزول له معنى، وأن الاستواء له معنى، ويَفهمون من هذه الآية معنى غير الذي يُفهمونه من قول النبي ﷺ:«يَنْزِلُ رَبُّنَا ﵎ كلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا»(١).
فالسلف فهموا معاني هذه النصوص وأمرُّوها كما جاءت، وكما سبق وأسلفنا أن إيمانهم بهذه النصوص هو إثبات وجود، لا إثبات كيف.
فإذًا المقصود هنا: أن تُمَرَّ كما جاءت، أي: على ما دَلَّت عليه في ظاهرها من غير قولٍ بالكيفية.
وقال أبو عمر: «ما جاء عن النبي ﷺ من نقل الثقات، أو جاء عن الصحابة ﵃،
(١) انظر: صحيح البخاري كتاب التهجد، بَابُ الدُّعَاءِ فِي الصَّلَاةِ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ، برقم (١١٤٥)، ومسلم كِتَابُ صَلَاةِ الْمُسَافِرِينَ وَقَصْرِهَا، بَابُ التَّرْغِيبِ فِي الدُّعَاءِ وَالذِّكْرِ فِي آخِرِ اللَّيْلِ، وَالْإِجَابَةِ فِيهِ (٧٥٨)، وأبو داود (١٣١٥)، والترمذي (٤٤٦)، وابن ماجه (١٣٦٦)، والإمام أحمد في المسند مُسْنَدُ الْمُكْثِرِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ (٧٥٠٩)، والدارمي (١٥١٩).