للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث / الرقم المسلسل:

يخاطبها، فدخل من فيها. وهذا غلط محض، فإن الذي أرسل إليها الملك الذي قال لها: {قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا} [مريم: ١٩]، ولم يكن الذي خاطبها بهذا هو عيسى ابن مريم، هذا محال.

والمقصود أن أبا جعفر الرازي صاحب مناكير، لا يَحْتَج بما تفرد به أحدٌ من أهل الحديث البتة، ولو صح لم يكن فيه دليل على هذا القنوت المعين البتة، فإنه ليس فيه أن القنوت هذا الدعاء، فإن القنوت يطلق على القيام، والسكوت، ودوام العبادة، والدعاء، والتسبيح، والخشوع، كما قال تعالى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} [الروم: آية ٢٦] وقال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر: آية ٩] وقال تعالى: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [التحريم: آية ١٢]، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "أفضل الصلاة طول القنوت" (١). وقال زيد بن أرقم - رضي الله عنه -: لما نزل قوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: آية ٢٣٨] أمرنا بالسكوت، ونهينا عن الكلام (٢). وأنس - رضي الله عنه - لم يقل: لم يزل يقنت بعد الركوع رافعا صوته: "اللهم اهدني فيمن هديت. . ." الخ، ويؤمن من خلفه، ولا ريب أن قوله: "ربنا ولك الحمد، ملء السموات، وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد. . ." الى آخر الدعاء والثناء الذي كان يقوله قنوت، وتطويلُ هذا الركن قنوت، وتطويل القراءة قنوت، وهذا الدعاء المعين قنوت، فمن أين لكم أن أنسا إنما أراد هذا الدعاء المعين، دون سائر أقسام القنوت؟!

ولا يقال: تخصيصه القنوت بالفجر دون غيرها من الصلوات دليل على إرادة الدعاء المعين، إذ سائر ما ذكرتم من أقسام القنوت مشترك بين الفجر وغيرها، وأنس خص الفجر، دون سائر الصلوات بالقنوت، ولا يمكن أن يقال: إنه الدعاء على الكفار، ولا الدعاء للمستضعفين من المؤمنين؛ لأن أنسا قد أخبر أنه قنت شهرا، ثم تركه، فتعين أن يكون هذا الدعاء المعين الذي داوم عليه هو القنوت المعروف، وقد قنت أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، والبراء بن عازب، وأبو هريرة، وعبد الله بن عباس، وأبو موسى الأشعري، وأنس بن مالك، وغيرهم.

والجواب من وجوه:

(أحدها): أن أنسا - رضي الله عنه - قد أخبر أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقنت في الفجر والمغرب، كما ذكره البخاري، فلم يخصص القنوت بالفجر، وكذلك ذكر البراء بن عازب - رضي الله عنهما - سواء، فما


(١) أخرجه مسلم في "صحيحه". وقد تقدم.
(٢) متفق عليه.