وقال الطحاويّ: المراد بالبرّ هنا البرّ الكامل الذي هو أعلى مراتب البرّ، وليس المراد به إخراج الصوم في السفر عن أن يكون برًّا؛ لأن الإفطار قد يكون أبرّ من الصوم، إذا كان للتقوي على لقاء العدوّ مثلاً، قال: وهو نظير قوله - صلى اللَّه عليه وسلم -: "ليس المسكين بالطوّاف … " الحديث، فإنه لم يرد إخراجه من أسباب المسكنة كلها، وإنما أراد أن المسكين الكامل المسكنة الذي لا يجد غنى يُغنيه، ويستحى أن يسأل، ولا يفطن له انتهى.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي أن القول الأول الذي جنح إليه البخاريّ، والمصنف، وابن خزيمة وغيرهم هو الأرجح، جمعًا بين الأدلّة.
وحاصله أن حديث الباب محمول على من تضرّر بالصوم، وأما من لم يتضرّر فلا يتناوله الحديث واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم الصوم في السفر:
اختلف السلف في هذه المسألة، فقالت طائفة: لا يجزئ الصوم في السفر عن الفرض، بل من صام في السفر وجب عليه قضاؤه في الحضر؛ لظاهر قوله تعالى:{فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}، ولقوله - صلى اللَّه عليه وسلم -: "ليس من البرّ الصوم في السفر"، ومقابل البرّ الإثم، وإذا كان آثمًا بصومه لم يجزئه، وهذا قول بعض أهل الظاهر، ومنهم ابن حزم، وحكى عن عمر، وابن عمر، وأبي هريرة، والزهريّ، وإبراهيم النخعي، وغيرهم.
واحتجّوا بقوله تعالى:{وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} الآية. قالوا: ظاهره، فعليه عدة، أو فالواجب عدّة. وتأوله الجمهور بأن التقدير، فأفطر، فعدّة.
ومقابل هذا القول قول من قال: إن الفطر في السفر لا يجوز إلا لمن خاف على نفسه الهلاك، أو المشقّة الشديدة. حكاه الطبريّ عن قوم.
وذهب أكثر العلماء، ومنهم مالك، والشافعيّ، وأبو حنيفة إلى أن الصوم أفضل لمن قوي عليه، ولم يشقّ عليه.
وقال كثير منهم: الفطر أفضل؛ عملاً بالرخصة، وهو قول الأوزاعيّ، وأحمد، وإسحاق.
وقال آخرون: هو مخير مطلقًا. وقال آخرون: أفضلهما أيسرهما؛ لقوله تعالى:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} الآية. فإن كان الفطر أيسر عليه، فهو أفضل في حقّه، وإن كان الصيام أيسر، كمن يسهل عليه حينئذ، ويشقّ عليه قضاؤه بعد ذلك، فالصوم في حقّه أفضل، وهو قول عمر بن عبد العزيز، واختاره ابن المنذر.