في الباب الماضي (وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ) الجُنّة -بضمّ الجيم-: السُّتْرَة، ومنه الْمِجَنّ، وهو الترس. زاد سعيد بن منصور، عن مغيرة بن عبد الرحمن، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة - رضي اللَّه عنه -: "جنة من النار"، وسيأتي للمصنّف مثله برقم -٤٣/ ٢٢٣١ - من حديث عائشة - رضي اللَّه عنها -، ومن حديث عثمان بن أبي العاص - رضي اللَّه عنه - برقم -٤٣/ ٢٢٣١ - بلفظ:"الصوم جنّة من النار، كجنة أحدكم من القتال". ولأحمد من طريق أبي يونس، عن أبي هريرة:"جنة، وحصن حصين من النار". وللمصنّف من حديث أبي عُبيدة بن الجراح - رضي اللَّه عنه - رقم-٤٣/ ٢٢٣٣ - الصوم جنّة، ما لم يَخْرِقها". زاد الدارميّ: "بالغيبة" (١). وبذلك ترجم له هو، وأبو داود.
و"الجنُة":-بضمّ الجيم-: الوقاية والستر. وقد تبيّن بهذه الروايات متعلّق هذا الستر، وأنه "من النار". وبهذا جزم ابن عبد البرّ.
وأما صاحب "النهاية"، فقال: معنى كونه جُنّةً: أي يقي صاحبه ما يؤذيه من الشهوات.
وقال القرطبيّ: جنة: أي سترة، يعني بحسب مشروعيّته، فينبغي للصائم أن يصونه مما يُفسده، وينقص ثوابه، وإليه الإشارة بقوله: "فإذا كان يوم صوم أحدكم، فلا يرفث الخ"، ويصحّ أن يراد أنه سترة بحسب فائدته، وهو إضعاف شهوات النفس، وإليه الإشارة بقوله: "يَدَعُ شهوته الخ"، ويصحّ أن يراد أنه سترة بحسب ما يحصل من الثواب، وتضعيف الحسنات.
وقال عياض في "الإكمال": معناه سترة من الآثام، أو من النار، أو من جميع ذلك، وبالأخير جزم النوويّ. وقال ابن العربيّ: إنما كان الصوم جنة من النار؛ لأنه إمساك عن الشهوات، والنار محفوفة بالشهوات.
فالحاصل أنه إذا كف نفسه عن الشهوات في الدنيا كان ذلك ساترًا له من النار في الآخرة.
وفي زيادة أبي عبيدة بن الجرّاح - رضي اللَّه عنه - إشارة إلى أن الغيبة تضرّ بالصيام، وقد حُكي عن عائشة، وبه قال الأوزاعيّ أن الغيبة تفطّر الصائم، وتوجب عليه قضاء ذلك اليوم. قال الحافظ: وأفرط ابن حزم، فقال: يبطله كلّ معصية من متعمّد لها ذاكر لصومه، سواء كانت فعلاً، أو قولاً؛ لعموم قوله: "فلا يرفث، ولا يجهل"، ولقوله: في الحديث الآخر: "من لم يدع قول الزور، والعمل به، فليس للَّه حاجة في أن يدع طعامه وشرابه".
(١) - في كون هذه الزيادة من جملة المرفوع نظر لا يخفى، فإن الظاهر أنها من كلام الدارميّ، كما سيأتي إن شاء اللَّه تعالى.