شيء، بل كلها جاءت عن متأخري الأشاعرة، ومن سار على دَرْبهم.
فإن اللَّه سبحانه حينما أنزل على رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم -: "لخلوف فم الصائم أطيب عند اللَّه من ريح المسك" لم يأمره ببيان كونه من المتشابه، وأن ظاهره غير مراد، بل تأويله كذا وكذا، مع أنه تعالى هو الذي قال له:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} الآية [النحل: ٤٤]، ولم يتعرّض النبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم - حينما أخبر بهذا الخبر لبيان الإشكال المزعوم، ولا للجواب عنه، ولا الصحابة الكرام - رضي اللَّه عنهم - الذين كانوا أعلم الناس بلغة العرب، وبمقاصد الشريعة بعد نبيهم - صلى اللَّه عليه وسلم - حينما سمعوا الحديث ما استشكلوه، ولا سألوا عن تأويله، وهكذا التابعون لهم بإحسان -رحمهم اللَّه تعالى-، سلكوا مسلكم، أفلا يسعنا ما وسعهم؟.
فيا أيها العقلاء، ويا أيها المنصفون الذين لم تنصبغ عقولهم بخيالات الفلاسفة، وأوهام المتكلمين: إن واجب كل مسلم إذا سمع شيئًا من النصوص، أن يتلقاه بالقبول، ولا يذهب به كلَّ مذهب تتخيّله نفسه، فإن هذه النصوص لم تأت إلا من العليم الحكيم الذي هو أعلم بما يجوز أن يُنسب إليه، وأن النبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم - لا يقول إلا الحقّ، كما قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (٣) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: ٣، ٤]
وخلاصة القول أن ما ثبت نسبته إلى اللَّه تعالى في كتابه العزيز، أو في حديث رسوله - صلى اللَّه عليه وسلم - الصحيح وجب قبوله، وإجراؤه على ظاهره على المعنى الذي أراده اللَّه تعالى، دون تشبيه ولا تمثيل، ولا تأويل، ولا تعطيل.
اللَّهم فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدنا لما اختلف فيه من الحقّ بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السادسة): [إن قيل]: ما الحكمة في تحريم إزالة دم الشهيد مع أن رائحته مساوية لرائحة المسك، وعدمِ تحريم إزالة الخُلُوف مع كونه أطيب من ريح المسك؟.
قلت: ذكر الإمام جمال الدين الإسنويّ -رحمه اللَّه تعالى- في "المهمّات" خمسة أوجه من الأجوبة:
(أحدها): أن دم الشهيد حجة له على خصمه، وليس للصائم خصم، يَحتجّ عليه بالخلوف، إنما هو شاهد له بالصيام، وذلك محفوظ عند اللَّه، وملائكته.
(ثانيها): أن دم الشهيد حقّ له، فلا يُزال إلا بإذنه، وقد انقطع ذلك بموته، وقد كان له غسله في حياته، والخلوف حقّ للصائم، فلا حرج عليه في ترك حقّه، وإزالة ما يشهد له بالفضل.