كان في ذلك مصلحة من زيادة شرح وبيان، وخصوصًا إذا كان العالم يعلم أن الطالب يؤثر ذلك (ومنها): مهابة الطالب للعالم، وتواضع العالم له، وصبره على مُسَاءَلَته، وإن كان عليه في شيء من ذلك غَضَاضة (ومنها): جواز تأديب الزوجات بالاعتزال عنهنّ، وترك الدخول عليهنّ (ومنها): جواز المعاقبة على إفشاء السرّ بما يليق بمن أفشاه (ومنها): فضل عائشة - رضي اللَّه عنها -، حيث بدأ بها النبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم - عند نزوله من محل اعتزاله (ومنها): تذكير الحالف بيمينه إذا وقع منه ما ظاهره نسيانها، لا سيما ممن له تعلّق بذلك؛ لأنّ عائشة خشيت أن يكون - صلى اللَّه عليه وسلم -نسي مقدار ما حلف عليه، وهو شهر، والشهر ثلاثون يومًا، أو تسعة وعشرون يومًا، فلما نزل في تسعة وعشرين ظنّت أنه ذَهِل عن القدر، أو أن الشهر لم يهُلّ. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في الذي حرّمه النبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم - على نفسه، وفي سبب حلفه:
(اعلم): أنه وقع اختلاف في الذي حرّمه النبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم - على نفسه، وعوتب على تحريمه، كما اختُلِفَ في سبب حلفه على أن لا يدخل على نسائه على أقوال:
فالذي في "الصحيحين" أنه العسل (١). وقيل: في تحريم جاريته مارية. ووقع في رواية يزيد بن رومان، عن عائشة، عند ابن مردويه ما يجمع القولين، وفيه: "أن حفصة أُهدِيت لها عُكّةٌ فيها عسل، وكان رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم - إذا دخل عليها حبسته حتى تُلعِقه، أو تَسقيه منها، فقالت عائشة لجارية عندها حبشيّة، يقال لها خضراء: إذا دخل على حفصة، فانظري ما يصنع، فأخبرتها الجارية بشأن العسل، فأرسلت إلى صواحبها، فقالت: إذا دخل عليكنّ، فقلن: إنا نجد منك ريح مَغافر، فقال: هو عسل، واللَّه لا أطعمه أبدًا، فلما كان يوم حفصة استأذنته أن تأتي أباها، فأذن لها، فذهبت، فأرسل إلى جاريته مارية، فأدخلها بيت حفصة، قالت حفصة: فرجعت، فوجدت الباب مغلقًا، فخرج، ووجهه يقطر، وحفصة تبكي، فعاتبته، فقال: أُشهِدك أنها عليّ حرام، أنظري، لا تخبري بهذا امرأة، وهي عندكِ أمانة، فلما خرج قرعت حفصة الجدار الذي بينها وبين
(١) - قصة العسل ساقها البخاريّ مطوّلة ومختصرة، فمنها: ما ساقها من طريق عبيد بن عمير، يقول: سمعت عائشة - رضي اللَّه عنها -، أن النبي - صلى اللَّه عليه وسلم - صلى اللَّه عليه وسلم، كان يمكث عند زينب بنت جحش، ويشرب عندها عسلا، فتواصيت أنا وحفصة، أن أيتنا دخل عليها النبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم -، فلتقل: إني أجد منك ريح مَغَافير، أكلت مغافير، فدخل على إحداهما، فقالت له: ذلك، فقال: "لا" بل شربت عسلا، عند زينب بنت جحش، ولن أعود له"، فنزلت: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} إلي {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ} لعائشة وحفصة، {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ} لقوله: بل شربت عسلا انتهى.