فاعترضه سائل، فقال: يا سيدى، من غلبت عليه مرارة الصفراء كيف يجد حلاوة الذوق؟ قال: يتعمد قيء الشهوات من قلبه، وقال: طالبتنى نفسى يوما بشهوة من السوق، فكنت أدافعها، وأخرج من درب إلى درب، وأطلب الصحارى.
فبينا أنا أمشى إذ رأيت ورقة فأخذتها، فإذا فيها مكتوب: ما للأقوياء والشهوات؟ إنما هى للضعفاء من عبادى، ليتقووا بها على طاعتى. فخرجت تلك الشهوة من قلبى
قال: وكنت أقتات بخرنوب الشوك، وقمامة البقل، وورق الخس من جانب النهر والشط، وبلغت الضائقة فى غلاء نزل ببغداد إلى أن بقيت أياما لم آكل فيها طعاما، بل كنت أتتبع المنبوذات أطعمها، فخرجت يوما من شدة الجوع إلى الشط لعلى أجد ورق الخس أو البقل، أو غير ذلك فأتقوت به. فما ذهبت إلى موضع إلا وغيرى قد سبقنى إليه وإن وجدت أجد الفقراء يتزاحمون عليه فأتركه حبا، فرجعت أمشى وسط البلد أدرك منبوذا إلا وقد سبقت إليه، حتى وصلت إلى مسجد ياسين بسوق الريحانيين (١) ببغداد وقد أجهدنى الضعف، وعجزت عن التماسك، فدخلت إليه وقعدت فى جانب منه وقد كدت أصافح الموت، إذ دخل شاب أعجمى ومعه خبز صافى وشواء، وجلس يأكل، فكنت أكاد كلما رفع يده باللقمة أن أفتح فمى من شدة الجوع، حتى أنكرت ذلك على نفسى: فقلت ما هذا؟ وقلت: ما ههنا إلا الله، أو ما قضاه من الموت، إذ التفت إلى العجمى فرآنى، فقال: بسم الله يا أخى، فأبيت، فأقسم علىّ فبادرت نفسى فخالفتها، فأقسم أيضا، فأجبته، فأكلت متقاصرا، فأخذ يسألنى: ما شغلك؟ ومن أين أنت؟ وبمن تعرف؟ فقلت: أنا متفقه من جيلان. فقال: وأنا من جيلان فهل تعرف شابا جيلانيا يسمى عبد القادر، يعرف بسبط أبى عبد الله الصومعى الزاهد؟ فقلت: أنا هو، فاضطرب وتغير وجهه، وقال: والله لقد وصلت إلى بغداد، ومعى بقية نفقة لى، فسألت عنك فلم يرشدنى أحد ونفذت نفقتى، ولى ثلاثة أيام لا أجد ثمن قوتى، إلا مما كان لك معى، وقد حلت لى الميتة،
(١) فى خطية الإدارة الثقافية «مسجد يانس بسوق الرياحين».