ووجَّه ابنُ عطية (٨/ ١٢١) القول الثاني بقوله: «وهي ما لا حدَّ فيه ولا وعيد مختصًّا بها مذكورًا لها، وإنما يقال صغار بالإضافة إلى غيرها، وإلا فهي بالإضافة إلى الناهي عنها كبائر كلها، ويعضد هذا قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنّ الله كتب على ابن آدم حظّه من الزنا لا محالة، فزِنا العين النّظر، وزِنا اللسان المنطق، والفَرْج يكذِّب ذلك أو يصدّقه، فإن تقدّم فَرْجه فهو زانٍ، وإلا فهو اللَّمَم». ثم علَّق عليه بقوله:» وتظاهر العلماء في هذا القول، وكثُر المائل إليه «. ووجَّه القول الرابع بقوله:» فكأن هذا التأويل يقتضي الرفق بالناس في إدخالهم في الوعد بالحسنى؛ إذ الغالب في المؤمنين مواقعة المعاصي، وعلى هذا أنشدوا -وقد تمثل به النبي - صلى الله عليه وسلم --: إن تَغْفِر اللهمَّ تَغْفِرْ جَمّا وأيُّ عبدٍ لك لا ألَمّا". ورجَّح ابنُ جرير (٢٢/ ٦٨) -مستندًا إلى اللغة- أن الاستثناء منقطع، وأن المعنى: «الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللّمَم بما دون كبائر الإثم، ودون الفواحش الموجِبة الحدودَ في الدنيا والعذاب في الآخرة، فإنّ ذلك معفوٌّ لهم عنه». ثم قال: «وذلك عندي نظير قوله -جلَّ ثناؤه-: {إنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ ونُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} [النساء: ٣١]». وزاد ابنُ عطية (٨/ ١٢٢ - ١٢٣) قولين آخرين: أحدهما عن نفطويه: «اللّمَم: ما ليس بمعتاد». والآخر عن الحسن بن الفضل: «اللّمَم: نظرة الفجأة». ورجَّح ابنُ القيم (٣/ ٧٨) القول الثاني، فقال: «والصحيح قول الجمهور: أن اللّمَم صغائر الذنوب، كالنّظرة، والغَمزة، والقُبلة، ونحو ذلك، هذا قول جمهور الصحابة ومن بعدهم، وهو قول أبي هريرة، وعبد الله بن مسعود، وابن عباس، ومسروق، والشعبي». ولم يذكر مستندًا، ثم علَّق بقوله: «ولا يُنافي هذا قول أبي هريرة، وابن عباس في الرواية الأخرى: إنه يُلِمّ بالكبيرة ثم لا يعود إليها [وهو القول الرابع]، فإنّ» اللمم «إما أنه يتناول هذا وهذا ويكون على وجهين، كما قال الكلبي، أو أنّ أبا هريرة وابن عباس ألحقا من ارتكب الكبيرة مرة واحدة ولم يُصرّ عليها، بل حصلت منه فلتة في عمره باللّمم، ورأيا أنها إنّما تتغلظ وتكبر وتعظم في حقّ مَن تكرّرت منه مرارًا عديدة. وهذا من فقه الصحابة - رضي الله عنهم - وغوْر علومهم، ولا ريب أنّ الله يسامح عبده المرة والمرتين والثلاث، وإنما يُخاف العَنت على مَن اتخذ الذنب عادته، وتكرّر منه مرارًا كثيرة، وفي ذلك آثار سلفية، والاعتبار بالواقع يدل على هذا ... فأول ذنب إن لم يكن هو اللّمم، فهو من جنسه ونظيره، فالقولان عن أبي هريرة وابن عباس متفقان غير مختلفين». ثم قال: «وهذه اللفظة فيها معنى المقاربة والإعتاب بالفعل حينًا بعد حين، فإنه يقال: ألمَّ بكذا: إذا قاربه ولم يَغْشه، ومن هذا سُمِّيت القُبلة والغَمزة لممًا؛ لأنها تُلِمّ بما بعدها، ويقال: فلان لا يزورنا إلا لمامًا، أي: حينًا بعد حين. فمعنى اللفظة ثابت في الوجهين اللذيْن فسّر الصحابة بهما الآية، وليس معنى الآية: الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم فإنهم لا يجتنبونه. فإن هذا يكون ثناء عليهم بترك اجتناب اللمم، وهذا محال، وإنما هذا استثناء من مضمون الكلام ومعناه، فإن سياق الكلام في تقسيم الناس إلى محسن ومسيء، وأنّ الله يجزي هذا بإساءته وهذا بإحسانه، ثم ذكر المحسنين ووصفهم بأنهم يجتنبون كبائر الإثم والفواحش، ومضمون هذا: أنه لا يكون محسنًا مجزيًّا بإحسانه، ناجيًا من عذاب الله، إلا مَن اجتَنب كبائر الإثم والفواحش، فحسن حينئذ استثناء اللّمَم، وإن لم يدخل في الكبائر، فإنه داخل في جنس الإثم والفواحش».