للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[استراتيجية تقزيم الهزيمة]

د. حنان فاروق

يقول علماء تنمية وتطوير الذات في العصر الحديث: إن الفشل أو الهزيمة ليسا المشكلة الحقيقية لمن يُمنَى بهما، لكن المشكلة الرئيسة هي الاستسلام لهما والرضا بهما.

إن الإنسان المهزوم هو الذي يسلم قياده لهزيمته ويرتاح بطريقة أو بأخرى في كنف (عدم استطاعة) وفي أغلال (فقدان المقدرة) على تغيير الواقع والعمل على خلق غدٍ أفضل بإذن الله؛ وهو الذي يركز على الجانب السلبي للفشل ولا ينظر إليه بمنظار مختلف وناحية مغايرة للانكسارية والتيه والضياع.

لقد أدرك الغرب المناوئ للإسلام وأمريكا سيدة مشروع (القرن الأمريكي الجديد) هذا الأمر، وفهمت أن سحق أي أمة لا يأتي إلا من داخل قلوب أبنائها وعقولهم قبل أن يكون جهاداً بالسلاح، ومن ثَم فقد عملت على تأكيد هذا السحق وتعميقه حتى تبدد أي أمل في النصر القادم الذي وعدنا به رب العزة تبارك وتعالى، وكذلك حتى تنسى الأمة نهج رسولها - صلى الله عليه وسلم - واستراتيجياته في معالجة الهزائم وتحويلها إلى بدايات لانتصارات جديدة حين يتكالب الطغاة والبغاة على الأمة تكالب الأكلة على قصعتها. وها هو - صلى الله عليه وسلم -، في بداية رسالته ونزول الوحي، عندما أتاه خبَّاب بن الأرتّ ـ رضي الله عنه ـ وهو متوسد بُرْدَه في ظل الكعبة وقال له: ألا تدعو الله؟! فقعد - صلى الله عليه وسلم - وهو محمرُّ الوجه، ثم قال: «لقد كان مَنْ قبلكم ليمشط بمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم وعصب ما يصرفه ذلك عن دينه، وليتمنَّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله ـ زاد بيان الراوي ـ: والذئب على غنمه» وفي رواية: «ولكنكم تستعجلون» .

كان المسلمون آنذاك في أوج هزيمتهم النفسية، يسامون سوء العذاب ليل نهار، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبشرهم بالنصر والتمكين؛ بيد أنه حين رأى أن نفوسهم قد دخلت إلى منعطف الاستسلام لانكسارهم واليأس من حاضرهم أمدهم بجرعة أمل منبعثة من أعماق الإيمان برسالته؛ وكأنه يقول لهم قول الله ـ تعالى ـ: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ} . فالضعف لا يزيد الإنسان إلا خساراً وترهلاً نفسياً لا يؤهله لأن تقوم له قائمة، أو تبزغ له شمس.

وحين ذهب - صلى الله عليه وسلم - إلى الطائف ولقي ما لقي من الأذى والعنت والسخرية اضطر للعودة إلى مكة مرة أخرى واستئناف ما بدأه هناك، فقال له زيد بن حارثة الذي كان يصحبه في رحلته تلك: كيف تدخل عليهم وقد أخرجوك (يعني قريشاً) ؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: «يا زيد! إن الله جاعلٌ لما ترى فرجاً ومخرجاً، وإن الله ناصرٌ دينه ومظهرٌ نبيه» فبدل بقوله هذا ما أحسه زيد من انكسار وقلة حيلة وهو يرى نبي الله وأباه بالتبني ـ قبل أن يحرّم ـ يُسَبُّ ويرمى بالحجارة، إلى أمل وإيمان بنصر عزيز من لدن حكيم خبير. وحين هاجر المسلمون من مكة إلى المدينة تاركين وراءهم أموالهم وديارهم وحياتهم بجوار بيت الله الحرام بعد أن سلبتهم قريش كل شيء مقابل خروجهم سالمين؛ كانوا وقتها يشعرون بالظلم القاهر لما اضطروا إليه فراراً من أذى قريش الذي أرهق أرواحهم قبل أجسادهم، وكانوا موقنين أنهم على الحق، لكنَّ تأخُّر النصر يؤلمهم ويقض مضجعهم. كانوا يتحرقون شوقاً لأن يسترجعوا حقوقهم المسلوبة وكرامتهم المنهوبة؛ فلم يتركهم الله ورسوله لهذا الشعور لكي يتغذى على نفوسهم وإيمانهم فيستسلموا له، بل نزلت الآيات الكريمة بالإذن بالقتال: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإنَّ اللَّهَ عَلَي نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج: ٣٩] .

فكانت السرايا والغزوات التي أعطتهم الدفعة نحو الأمام والثقة بأنهم قادرون على الانتصار بإذن الله؛ لا يفت في عضدهم قصور في العدة أو العدد؛ مثل سرية سِيف البحر ورابغ والحزار، وغزوة الأبواء وبواط وسفوان، وغزوة ذي العشيرة، وسرية نخلة.. تلك السرايا والغزوات لم تكن إلا لرد كرامة المسلمين الذين لم يقترفوا ما يدعو إلى إيذائهم والاعتداء عليهم إلا أنهم اختاروا الله الواحد الأحد، فباعوا له أموالهم وأنفسهم، ونصروه ولم يستسلموا للتخذيل الهدام الذي كان يبثه المنافقون في نفوسهم؛ فلما أبوا الاستسلام ونصروا ربهم نصرَهم نصراً عزيزاً مؤزراً بعد سنوات من العذاب والصبر والتحمل.

أما ما حدث بعد الهزيمة النفسية المؤلمة التي تعرض لها المسلمون في أُحُد فهو الدرس الواضح الصريح الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه في استراتيجية مقاومة وتقزيم الهزيمة؛ فقد أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - المسلمين الذين شهدوا معركة أحد والمثخنين بالجراح والأحزان صباح الغد من الهزيمة بالخروج ليطاردوا فلول الكفار العائدين بنصرهم المؤقت؛ فرحين يخططون لإعادة الكرَّة للإغارة على المدينة المنورة ليفتكوا بالمسلمين وهم بعدُ لم يخرجوا من روح هزيمتهم، فهبُّوا سمعاً وطاعة لرسولهم الصادق الأمين - صلى الله عليه وسلم -، وعسكروا بحمراء الأسد على بُعد أميال من جيوش الكفار؛ مما جعل المشركين يفرون خوفاً منهم ومن سرعة قيام قائمتهم، وخاصة بعد أن خذّلهم معبد بن أبي معبد الخزاعي بإيعاز من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد أن اسلم وأدى واجبه في إكمال الحرب النفسية على الكفار والمشركين، وعاد المسلمون دون أن يمس أحدَهم سوء؛ وشعورُ النصر والقوة يملؤهم ويدفعهم دفعة جديدة بعد أن كادوا يركنون إلى إحساس الفشل والألم والحسرة.

هذا ما علَّمناه رسولنا الأمين - صلى الله عليه وسلم -. وإننا نرى اليوم الحرب النفسية على المسلمين؛ فحين تتوالى الأخبار عن هزيمة العدوان في العراق وأفغانستان أو غيرهما من بلاد المسلمين ومقتل عدد لا يحصى من أفراد القوات المحتلة.. نراهم يسمحون بتسريب أخبار عن تعذيب المسلمين في جوانتانامو وأبي غريب بأساليب تتدنى عن أحط الأخلاق الحيوانية، بل ينشرون صور ذلك الإذلال على الملأ في نشرات أخبارهم وبرامجهم السياسية والحوارية وجرائدهم المحلية والعالمية ليعمقوا إحساس المهانة لدى المسلم المتابع لقضايا مجتمعه في جميع أنحاء العالم بالصوت والصورة والشعور حتى يتغلغل داخله ويقيده فلا يستطيع منه فكاكاً.

ثم يعود العدو فينشر أخباراً عن إهانة المصحف وتدنيسه المتعمد في السجون والمعتقلات نفسها التي أُعدت خصيصاً للمسلمين القابضين على الجمر الذين جُرِّدوا من كرامتهم قبل ملابسهم تحت تهديد السلاح، ثم تعرض الصحف الأجنبية رسوماً مسيئة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وترفض الاعتذار بدعوى أننا ـ أعني المسلمين ـ لا نفهم معنى الحرية الحقة، فيحمِّلوننا الإساءة والتخلف معاً.

ويعاود رأس الكاثوليك الكرَّة فيسيء للإسلام، ثم يقول: لم أقصد.. وهو الذي يعد رئيس دولة؛ فهو ليس زعيماً دينياً فحسب، ولكنه أيضاً يضطلع بالعمل السياسي مثل رؤساء الدول وملوك الممالك وسلاطينها ومن شابههم؛ وعليه فلا يمكن إدراج إساءاته تحت النقل أو زلات اللسان أو الهفوات الفكرية؛ لأنها بالقطع مقصودة، وتضيف لسابقاتها المتكررة المعلنة وغير المعلنة أرصدة جديدة من الألم النابض في قلوب المسلمين وعقولهم. ثم يعود الإعلام فينشر صور حاكم عربي كبير، مهما اختُلف عليه فهو مسلم، وهو بملابسه الداخلية في المعتقل الخاص المعد له دون إذن منه وكأنه يمعن في فضحه والنيل منه.

ثم يعود فينشر فيلماًَ لإعدامه صبيحة عيد الأضحى المبارك والمسلمون في أوج عزتهم وتوحدهم الذي يستشعرونه كل عام من كل فج عميق خلال رحلتهم لبيت الله الحرام عبر القنوات الفضائية العربية وغير العربية والإنترنت ورسائل الوسائط للهواتف المحمولة التي استكملت المشهد التلفزيوني الذي رفض إعلاميوه عرض أواخره، فقامت الشبكة العنكبوتية وأجهزة المحمول بالغرض وبالمهمة عنهم ليضرب مشاعر المسلمين في مقتل وائد لفرحتهم قبل أن تكتمل، وسعادتهم قبل أن تتم.

إنها الحرب النفسية واللعب على وتر التحطيم الداخلي قبل الخارجي، وإرساء حالة من الاكتئاب واليأس العام قبل تنفيذ أي مخطط بفترة كافية كي تتسنى التهيئة التامة لركوع المغتصَبين لغاصبيهم، بانتزاع كل أمل في النصر والتمكين من قلب الفريسة لتتبدد مقاومتها قبل أن تولد، ويشل تفكيرها قبل أن يتأجج، ويموت الحلم حتى في الخيال، فيدخل المحتل إلى حيث يريد، ويأخذ ما يريد في الوقت الذي يريد، ويجعل فريسته إما صورة في مرآته، أو كمّاً مهمَلاً في سلة قاذوراته.

إن هذا هو مفتاح الانتصار الذي يعتمد عليه الآخر في حروبه معنا، معنويةً كانت أو ماديةً؛ وبغير هذا المفتاح لا يهنأ لغاصب قلب ولا يغمض له جفن، ولا يفرح مهما حقق من نجاحات ومهما نفذ من مخططات؛ ولهذا فنحن مطالبون بقمع هزائمنا النفسية والفعلية، والعمل على الخروج من قوقعة اليأس، وزنزانة التكبيل الفكري، ودائرة الإحباط المفرغة التي ندور فيها بلا هدف غير البكاء والتباكي على حالنا بكل طريقة ممكنة ومتيسرة: بالكلمة والفعل وتعلُّم وإرساء مهارات العمل الجماعي، ونبذ ثقافة الحزن على اللبن المسكوب في مقالاتنا وفكرنا، ودراسة تاريخنا الحقيقي لا ذلك الذي لُقِّنَّاه في مدارسنا وجامعاتنا.. وأولاً وأخيراً: بالثقة بوعد الله ـ تعالى ـ لنا: {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: ١٠٤] .