للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

المسلون والعالم

[جذور التيارات الفكرية في الحياة السياسية الإسرائيلية]

حسن الرشيدي

قبل عدة أشهر لم يكن أحد من المراقبين يتوقع صعود نجم شارون مرة أخرى

هذا العجوز المتهور الذي يمتلئ تاريخه بالمجازر والوحشية والدماء. ولكن مع

تطورات الانتفاضة وصمود الشعب الفلسطيني في وجه آلة الحرب الإسرائيلية

العاتية بدأت ظاهرة شارون تعود وتأخذ مكانها تدريجياً داخل النظام السياسي

الإسرائيلي، وتوج ذلك التوجه بفوزه بأغلبية ساحقة في انتخابات رئاسة الوزراء

الإسرائيلية.

هذا التحول في مجرى السياسة الإسرائيلية يدفعنا إلى محاولة استكشاف طبيعة

النظام السياسي الإسرائيلي والأسس الفكرية التي يقوم عليها، ودراسة التيارات

والقوى المختلفة التي تتحكم في عملية صنع القرار السياسي داخل مستويات الإدارة

اليهودية.

هذه الدراسات تفيدنا بلا شك في سبر غور تفاعلات المجتمع اليهودي وما

يشوبه من صراعات ومنازعات، وما يزخر به من جماعات وفئات مختلفة الأصول

العرقية واللغوية، والمليء بالتناقضات المذهبية والدينية، ومعرفة نقاط الضعف فيه

ونقاط القوة.

كما تبدو هذه الدراسة سبيلاً لإدراك أبعاد الفكرة الدينية التي قامت عليها

إسرائيل وتطور هذه الفكرة وفهم جزئياتها؛ وخاصة ما يتعلق منها بهدم الأقصى

وإقامة الهيكل على أنقاضه كما يزعمون.

وبتتبع تاريخ اليهود والمراحل التي مرت بها الدولة اليهودية قبل نشأتها وحتى

الآن نجد أن السياسة الإسرائيلية تأثرت بثلاثة تيارات فكرية مختلفة كانت هي

الغالبة والمتحكمة في الحياة السياسية الإسرائيلية وهذه التيارات هي:

أولاً: التيار الصهيوني السياسي:

تُنسب الصهيونية إلى جبل صهيون وهو أحد الجبال الأربعة التي أقيمت عليها

مدينة القدس. والتوراة تضفي هالة من القداسة على جبل صهيون خاصة؛ ففيه

يقيم (يهوه) إله اليهود فيما يزعمون، وفي رحابه يظهر المسيح المخلص الذي

ينتظره اليهود. وقد اشتق الكاتب الألماني اليهودي (ناثان برنباوم) في القرن

التاسع عشر من لفظ صهيون كلمة الصهيونية ليصف بها الاتجاه السياسي الجديد

آنذاك بين يهود أوروبا، ولقد استغل هذا الكاتب تلك اللفظة بهدف استثارة الحمية

الدينية لدى الجماعات اليهودية للانضواء تحت لواء هذا الاتجاه الجديد.

وظهرت الصهيونية السياسية بوصفها برنامج عمل في القرن التاسع عشر

على يد الصحفي النمساوي تيودور هرتزل، وهي تستند إلى فكرة رئيسية تقول إن

ثمة مشكلة يهودية تتمثل في تشتت اليهود وتعرضهم للمطاردة والاضطهاد أينما

وجدوا برغم أنهم يشكلون أمة واحدة وشعباً واحداً، وأن الحل الوحيد لهذه المشكلة

هو عودة هذا الشعب لأرضه المقدسة، وهي أرض الميعاد بغية إقامة دولة خاصة

به.

وفكرة العودة تلك ليست فكرة جديدة؛ فقد آمن بها عامة اليهود على مر

العصور بهدف إعادة بناء هيكل سليمان وإقامة مملكة إسرائيل وذلك تحت قيادة

المسيح المنتظر. غير أن الجديد لدى دعاة الصهيونية السياسية هو تميز دعوتهم

عن الدعوات السابقة لها بهدف سياسي هو إقامة دولة يهودية في فلسطين وبوسائل

سياسية تتمثل في الاعتماد على العمل اليهودي الذاتي، وليس انتظار المسيح

المنتظر.

ولكن لماذا حدث هذا التحول من فكرة الانتظار إلى فكرة العمل الذاتي؟ كان

ذلك لعاملين أساسيين:

أولهما: تأثر اليهود بحركة التحرر الأوروبي من الدين، فنشأت بين اليهود ما

يعرف باسم حركة (الهسكالاه) وهي كلمة عبرية تعني التنوير، وأخذت هذه

الحركة تدعو اليهود إلى الاندماج في المجتمعات الأوروبية، وذلك عن طريق فصل

الدين عن حياة اليهود في المجتمعات الأوروبية. وقد انتقدت الحركة سيطرة

الحاخامات على الديانة اليهودية وتفسيراتهم للتوراة مما أدى إلى مراجعة فكرة

الخلاص وانتظار المسيح كشرط للعودة، وظهور فكرة التخطيط والعمل على العودة

لأرض الميعاد. وهذه الحركة أحدثت هزة عنيفة داخل المجتمع اليهودي الذي ظل

لقرون عديدة منعزلاً على نفسه معتقداً أنه شعب الله المختار المتميز.

أما العامل الثاني الذي أدى إلى ظهور فكر العمل الذاتي للوصول إلى أرض

الميعاد فهو حركة العداء للسامية، وهي تعني كراهية الشعوب المسيحية الأوروبية

لليهود وما تبع ذلك من عمليات مطاردة واضطهاد، وأخذ اليهود يعمقون الشعور

بهذا العداء، وادعوا أنه يأخذ أبعاداً ثلاثة:

- البعد التاريخي: منذ السبي البابلي لليهود، وحتى الشتات الروماني في

العصر القديم وحياة الجيتو، ثم اضطهاد العصور الوسطى، ثم اضطهاد النازي في

العصر الحديث.

- والبعد الجغرافي: أي أن العداء يشمل اليهود في جميع أنحاء العالم.

- والبعد الكيفي: أي أن ما وقع لليهود لا يعادله أي اضطهاد وقع على سواهم

في أي زمان ومكان.

ومن هنا كان ادعاء الحركة الصهيونية أن الحل الوحيد والناجع لهذه المسألة

هو أن يكون لليهود وطن خاص بهم، وراحت هذه الحركة تبث أفكارها حول أربعة

محاور رئيسية وهي:

- فكرة الوعد الإلهي الذي قطعه إله بني إسرائيل على نفسه لليهود بتملك

الأرض المقدسة.

- فكرة أن اليهود هم شعب الله المختار.

- فكرة المسيح المخلص.

- الادعاء التاريخي أن فلسطين هي الموطن الأصلي لليهود.

ودعاة تيار الصهيونية السياسية كان معظمهم من الملاحدة الذين لا يعيرون

الدين أي اهتمام؛ فكان اهتمامهم منصباً على العودة إلى فلسطين لأسباب كثيرة منها

المال والثروة والغايات الأخرى التي سبق الكلام عنها مثل التحرر من الجيتو

الأوروبي. ويقول هرتزل في هذا السياق: «إن اليهود يؤمنون بفكرة المسيح

المخلص في الأوساط الدينية فقط، أما في دوائرنا الأكاديمية المستنيرة فليس لمثل

هذه الفكرة من وجود» ، ومن أقواله أيضاً: «سوف يلقى المتسلطون المتدينون إذا

حاولوا التدخل في إدارة شؤون الدولة مقاومة عنيدة وشديدة من جانبنا» . وكان

هرتزل قد تعمد أثناء زيارة له للقدس انتهاك العديد من الشعائر الدينية اليهودية؛

فضلاً عن أنه لم يقم بختان ابنه الوحيد الذي تنصَّر فيما بعد. وحينما كان يقرأ

خطابه الذي ألقاه في المؤتمر الصهيوني الأول بالعبرية تبين أن الحروف التي كتب

بها الخطاب كانت باللاتينية.

وبرغم ذلك لم يتجاهل هرتزل أهمية الدين في بناء دولته، وأن الفكرة في

الأساس هي فكرة دينية تقوم وتترعرع على أرض الميعاد والمسيح المنتظر، فاهتم

بدعم الحاخامات ورجال الدين لدعوته؛ حيث اعتبر الدين أداة من أدوات توحيد

صفوف اليهود خلف فكرته , ولكن فكرة العودة عند هذا التيار - الصهيوني

السياسي - هي خلاص دنيوي وقومي وملاذ لليهود من الاضطهاد والشقاء.

ولم يكن هرتزل بمفرده صاحب هذا المنهج أي المنهج العلماني؛ فقد كان

هناك بن جوريون أول زعيم لليهود على أرض فلسطين الذي قال: «لو تركت

حياة اليهود لحاخامات اليهود لظلوا حتى الآن كلاباً ضالة في كل مكان يضربهم

الناس بالأقدام» , ومثله حاييم وايزمان الذي تزعَّم المنظمة الصهيونية العالمية،

والذي كان يتلذذ بمضايقة الحاخامات بشأن الطعام المباح في الشريعة اليهودية،

وبرغم ذلك فقد كان يسير وفقاً لمبدأ سابقيه في رؤية الدافع الديني كمقدرة لا

يستعاض عنها في إيقاظ طاقات الشعب اليهودي.

وتبلور هذا التيار في اتجاهين:

الأول: الاتجاه الاشتراكي الذي كانت آخر صوره حزب العمل.

والاتجاه الثاني: هو الاتجاه الليبرالي أو ما يعرف باليميني الذي يمثله حالياً

تكتل الليكود.

ثانياً: التيار الأرثوذكسي، اليهودية الأرثوذكسية:

لفظة (الأرثوذكسية) ذات أصل يوناني ومعناها: العقيدة القويمة أو

المستقيمة , ولقد تقبل اليهود المتدينون هذا المصطلح الذي أطلق منذ بداية القرن

التاسع عشر على التيار الأرثوذكسي في الفكر اليهودي، وهو امتداد لليهودية

القديمة القائمة على التوراة المحرفة والتراث الشفهي للحاخامات , ومع بداية القرن

التاسع عشر وظهور الأفكار التحررية وسط أجيال اليهود هبَّ رواد اليهودية

الأرثوذكسية مدافعين عن فكر الانعزال والانغلاق رافضين أي تغييرات

تجاري مقتضيات العصر، وبلغت ذروتها في عام ١٩١٢م؛ حيث أسس هذا التيار

حركة دينية أرثوذكسية مناوئة للأفكار الصهيونية التي قد بدأت تنتشر في أوساط

اليهود تمييزاً لهم عن المتدينين الذين اعتنقوا الفكر الصهيوني، وسميت هذه

الحركة: (أغودات إسرائيل) أي رابطة إسرائيل، وأطلق على هؤلاء الأرثوذكس

المعارضين للصهيونية: (الحريديم) ، ولفظة الحريديم تعني المتقين. ينطلق

هذا التيار من عدة مبادئ:

١ - إن الحركة الصهيونية حولت فكرة الشعب اليهودي ذات المفهوم الديني

من جماعة دينية تستمد هويتها عن طريق التقيد بتعاليم الشريعة في كل أمور الحياة

العامة والخاصة إلى فكرة لا تقدس التوراة ولا شعائرها، وترى الشعب اليهودي

كغيره من الشعوب الأخرى؛ فالرب في نظرهم اصطفاهم وجعلهم شعبه المختار

لكي يقوموا على خدمة الجنس البشري كله؛ فالعودة واجب من ٦١٣ واجباً في

الشريعة اليهودية؛ فلماذا يُهتم بهذا الواجب بالذات، بينما لا يلتزم أحد بالواجبات

الأخرى؟ ولهذا فهي حركة قومية علمانية تستغل المفاهيم الدينية والتوراتية في

صياغة أفكارها وأهدافها.

٢ - إن الحركة الصهيونية استبدلت الخلاص الدنيوي البشري بالخلاص

الإلهي؛ وذلك بدعوتها اليهود إلى العودة إلى الأرض المقدسة دون انتظار المسيح،

وهو ما يعد خروجاً على الإرادة الإلهية وتعاليم التوراة! أما النظرة الأرثوذكسية

المتشددة فترى أن مصير الشعب المختار لا يحدده إلا خالقه؛ وذلك تبعاً لمقدار

تمسك ذلك الشعب بتعاليم الشريعة اليهودية؛ وما الشتات إلا قضاء من الرب

وعقاب، ولن يتم الخلاص إلا بإرسال المسيح المخلص.

٣ - إن الحركة الصهيونية تعتمد على الإرادة الحسنة للأمم الأخرى (الأممية)

فهذه الأمم هي التي تسمح لليهود بالعودة والاستيطان في أرضها، وذلك عن

طريق مراحل مختلفة: «وعد بلفور، التقسيم، الدولة ... » ؛ وهذا لا يتلاءم مع

طبيعة الشعب اليهودي ولا مع الوعد الإلهي لهم بتملك أرض الميعاد.

٤ - إن المتدينين الأرثوذكس يرون أن علاقة اليهودي بأرض الميعاد هي

علاقة روحية، وأن نفي اليهود منها هي من الأوامر الربانية التي لا يمكن مخالفتها؛

وعلى اليهودي أن يستمر في صلواته حتى يستجيب له الرب ويأمر بعودته مع

المسيح؛ ومن هنا يرفض هؤلاء الدعوة الصهيونية وادعاءها بأنها تحمي أمن اليهود

وتنقذهم من الشتات.

٥ - إن الحركة الصهيونية معادية للسامية؛ ذلك أنها تخلق لليهودي مشكلة

ازدواج الولاء، وتعمل على دعم الاتهامات المعادية للسامية، ولأنها تزدهر

بازدهار معاداة السامية؛ فهي تعمل على الترويج لها عن طريق العمل على تقويض

وضع اليهود أينما وجدوا حتى تدفعهم إلى الهجرة.

٦ - إن الحركة الصهيونية جعلت من اللغة العبرية لغة الحديث اليومية

والرسمية لليهود؛ وذلك برغم أنها لغة دينية مقدسة يحرم استعمالها إلا في الشؤون

الدينية.

وقد كان طبيعياً أن يرفض الحريديم الدولة التي أقامتها الحركة الصهيونية؛

لأنها دولة علمانية تقوم على هوية وثقافة علمانية وتتجاهل هوية اليهود وقيامهم

وتعاليم دينهم , وفي الإجمال ثمة رأيان اثنان داخل صفوف الحريديم تجاه دولة

إسرائيل:

الأول: يرى أن قيام هذه الدولة عمل مناقض لفكرة المسيح، ومن ثَمَّ فهي

دولة آثمة. وبديهي أن هذه المعارضة للدولة لا تعود إلى علمانية الدولة وقوانينها

ومؤسساتها وإنما إلى طبيعة نشأتها وخروجها على الإرادة الإلهية والتعاليم التوراتية؛

ومن هنا فأنصار هذا الرأي يرون أنهم في منفى، وأن سبب هذا النفي هو وجود

الدولة ذاتها ولهذا لا يسعى هؤلاء إلى مراعاة الدولة ومؤسساتها، بل ينفصلون عن

المجتمع سياسياً واجتماعياً؛ ومن ممثلي هذا الرأي جماعة (ناطوري كارتا) .

أما الرأي الثاني: فيعترف أنصاره بالدولة حقيقة واقعة؛ وذلك دون منحها

الشرعية؛ وهم يعتبرون أنفسهم في منفى أيضاً؛ غير أنهم يتعاونون مع الدولة

ومؤسساتها وكأنهم في بلد أجنبي، ويحددون موقفهم منها بمقدار اقترابها من التوراة

وتعاليمها، ويمثل هذا الرأي في إسرائيل حركة (أغودات إسرائيل) التي

تعرضت - مثلها مثل سائر أحزاب إسرائيل - للانشقاقات. ويوجد في

إسرائيل اليوم قوتان رئيسيتان تمثلان هذا التيار، هما: (شاس) أو حراس

التوراة الشرقيين. و (يهدوت هيتوراه) أو يهود التوراة.

ويتضح أثر هذا التيار السياسي في عام ١٩٤٧م عندما جاءت لجنة التحقيق

التابعة للأمم المتحدة (أونسكوب) وهي اللجنة التي أدت توصياتها إلى صدور قرار

التقسيم؛ فقد حرص قادة الوكالة اليهودية على أن يظهر اليهود جبهة واحدة أمام

اللجنة؛ وطلبوا من ممثلي اليهودية الأرثوذكسية المتشددة عدم معارضة إقامة دولة

يهودية في فلسطين أمام اللجنة؛ حيث كانت أفكار هذا التيار في ذلك الوقت تدعو

إلى إطالة أمد الانتداب أو حتى إقامة اتحاد يهودي عربي؛ ولكن - حفاظاً على

وحدة إسرائيل - حرص بن جوريون على إعداد وثيقة أو اتفاقية تسمى: (الوضع

الراهن) - لا تزال قائمة حتى الآن - تحدد العلاقة بين التيار الأرثوذكسي والتيار

الصهيوني العلماني، وتعهد التيار العلماني بالاستجابة إلى مطالب المتدينين من

حيث يوم العطلة، وتوفير الطعام المخصص لليهود، وقوانين الأحوال الشخصية

والتعليم. وقد وقَّع بن جوريون الوثيقة بنفسه، ووقَّع إلى يمين توقيعه الحاخام

(فيشمان) زعيم التيار الصهيوني الديني حينذاك، ووقَّع إلى يسار توقيعه

(إسحق غرينبويم) وهو من أشد اليهود مناوأة للدين يومذاك دلالة على ضمان

أن الجهات الأكثر تطرفاً في مناهضة الدين والجهات الملتزمة به أنها جميعاً قد

تعهدت بذلك.

ثالثاً: التيار الصهيوني الديني:

انطلقت مفاهيم هذا التيار الأساسية من إنكاره فكرة انتظار المسيح المخلص

لقيادة جموع اليهود، والدعوة إلى العودة لفلسطين لإقامة مملكة إسرائيل، والإيمان

بالجهود البشرية لليهود أنفسهم عن طريق تهجيرهم من أوطانهم وتوطينهم في

فلسطين. وقد استند رواد الصهيونية الدينية إلى نصوص توراتية واصطلاحات

تلمودية تعتبر الاستيطان في أرض إسرائيل وصية من الوصايا الدينية اليهودية

تمهيداً لقدوم المسيح المخلص؛ فتربة فلسطين تربة طاهرة، وأورشليم مدينة الله

وموطن إقامته، و «هي مركز الأرض، والمكان المناسب والوحيد لتأدية الوصايا

الدينية» عند الحاخام بن نحمان.

و «شراء الأراضي في أرض إسرائيل هي فريضة مقدسة ورَّثها النبي يعقوب

لنسله من بعده» كما قال الحاخام القلعي.

وخلاص اليهود لا يمكن أن يتم بمجرد مراعاتهم الوصايا الدينية في بلدان

شتاتهم؛ وإنما كما قرر الحاخام كاليشر -: «في الاستعداد له بالاستيطان والعمل

المقدس في الأرض المقدسة» .

وليس ثمة أمة - عند الحاخام (لانداو) دون أرض ولا دولة يهودية دون

الجمع بين الدين والدولة حسبما جاء في كلام بار إيلان.

وعند الحاخام (كوك) : الصهيونية هبة إلهية، وروادها ينفذون تعاليم الدين

فهم يد الإله في تنفيذ وعده، ومن هنا يجب توحيد جميع أبناء صهيون المتدينين

منهم وغير المتدينين وراء هدف استيطان فلسطين كما رأى الحاخام (موهليفر) ،

بل يجب التساهل مع العلمانيين والتعاون معهم على حد قول كوك.

والصهيونية الدينية - بأفكارها تلك - قدمت الشرعية لمطالب الدعوة

الصهيونية (المتمثلة في تهجير اليهود إلى فلسطين لإنشاء دولة لهم) كما أضفت

عليها طابعاً دينياً ذا صبغة توراتية ورداء تلمودي قلَّ أن تتمتع به أي حركة سياسية؛

ولهذا مثَّل الدين مَعِيناً لا ينضب ودعماً لا يحيد في يد الحركة الصهيونية تعوِّل

عليه، وتستمد منه تأثيرها ونفوذها تجاه الجماعات اليهودية في سائر أنحاء العالم

ولا سيما في شرق أوروبا حيث كان يقطن اليهود المتمسكون بالتقاليد والعادات

الدينية؛ فضلاً عن أن مواجهة أفكار الحاخامات اليهود الإصلاحيين بالأفكار

الصهيونية الدينية مهد الطريق لكبح الأفكار الأولى، واحتواء الثانية، وإفساح

المجال أمام هيمنة الحركة الصهيونية.

هذا وقد أفضى قيام دولة إسرائيل إلى إعطاء دفعة قوية لأفكار الصهيونية

الدينية وأهدافها؛ حيث عززت دعواها في جعل أرض إسرائيل مركز حياة اليهود

في العالم ولا سيما أن قيامها جاء بعد فترة قصيرة من المذابح النازية لليهود من

جانب، وأعقبها انتصارات عسكرية بلغت ذروتها في حرب يونيو (حزيران) من

عام ١٩٦٧م من جانب آخر، وهذا ما دفع دعاة الصهيونية الدينية إلى دعم الدولة

رغم علمانيتها والتعاون معها، وقد كان من دعاة الصهيونية الدينية البارزين بعد

قيام الدولة الحاخام (زفي يهودا كوك) ابن الحاخام كوك.

ويجدر بنا قُبيل الانتهاء من الحديث عن الصهيونية الدينية أن نشير إلى أن

أنصار الصهيونية الدينية - أخذوا - يتحدثون منذ نهاية الثمانينيات ومطلع

التسعينيات عن ضرورة فك عرى التحالف مع الدولة العلمانية وزعمائها. لقد ازداد

شعور الصهيونية الدينية بقوتها في السنوات الأخيرة؛ حيث مارس حاخاموها نفوذاً

كبيراً في الشارع الإسرائيلي، وتبوأت الأحزاب والحركات الدينية الصهيونية موقعاً

مرموقاً في عملية صنع القرار السياسي سواء ما كان من خلال مشاركتها في

الائتلافات الحكومية أو من خلال تأثيرها على سياسات الحكومة؛ إلى جانب سيطرة

الصهيونية الدينية على دار الحاخامية الرئيسية، والحاخامية العسكرية، والمدارس

الدينية الصهيونية، وجامعة بار - إيلان، ومنظمة بني عقيبا الشبابية وغيرها من

المؤسسات الاجتماعية.

ولهذا بدأ حاخامات الصهيونية الدينية ومؤسساتها في تحدي سياسة الدولة

ومؤسساتها، ولعل أبرز صور هذا التحدي ما حدث في أغسطس (آب) ١٩٩٥م

حينما أصدر (١٥٠٠) حاخام - وهم من الحاخامية الرئيسية، وعلى رأسهم

الحاخام أبراهام شابيرا - فتوى نادت بتحريم إخلاء القواعد العسكرية الموجودة في

الضفة الغربية وقطاع غزة وتسليمها إلى غير اليهود، وطالبت الجنود بعدم طاعة

أوامر الانسحاب؛ وذلك رداً على اتفاق أوسلو؛ لأن الانسحاب المقترح في الاتفاق

يعرض حياة السكان إلى الخطر، بل ويهدد وجود الدولة وينذر بوقوع فتنة بين

الجيش والشعب كما جاء في الفتوى، بل ذهب بعض الحاخامين إلى أبعد من ذلك

حينما رأوا أن الحكومة نفسها تفتقد الشرعية، ولذلك فإن أوامر الجيش غير شرعية ,

وإلى جانب هذا ارتفعت أصوات عدد من الحاخامات التابعين للصهيونية الدينية

تطالب بالانفصال عن العلمانيين؛ لأنهم يرفضون التراث والتقاليد اليهودية،

ويظهرون العداوة للمستوطنين، ويعلنون أن الدولة لكل مواطنيها وليست للشعب

اليهودي فقط، بل يحاولون تقنين أفعال تخالف التوراة كاللواط، كما دعا أحد

الحاخامات إلى تغيير النشيد الوطني للدولة وهو نشيد الحركة الصهيونية في الأساس

واستبداله بالمزمور رقم (٢٦) من مزامير التوراة، بل راحت بعض الكُنُس تغير

من الدعاء في الصلاة الذي يطلب من الله حفظ زعماء الدولة ليصبح نص الدعاء

هو: «أن يحفظ الله اليهود من زعماء الدولة» . وقد وصل هذا الأمر إلى ذروته

حينما أقدم شاب من صفوف الصهيونية الدينية على قتل إسحق رابين في نوفمبر

(تشرين الثاني) ١٩٩٥م.

ومن الأحزاب الممثلة لهذا التيار الحزب الديني القومي (المفدال) والأحزاب

المنشقة عليه، ويتميز هؤلاء القوميون الدينيون عن الحريديم أو أتباع التيار

اليهودي الأرثوذكسي بلبسهم القلنسوات على رؤوسهم.

وكما نرى فإنه برغم تشرذم هذه التيارات وتحزبها فإن العقلية والنفسية

اليهودية القائمة على البراجماتية ولغة المصالح هي التي تتحكم في النهاية في

مسارات هذه المجموعات، وعلى ضوئها تتعامل هذه التيارات بعضها مع بعض

وتخاطب العالم الخارجي.