الورقة الأخيرة
[المسجد الأقصى المبارك.. مآذنه تنادي ضمير الأمة]
عبد الرحمن فرحانة
الأقصى وصلاح الدين صورة ذهنية مدمجة نسيجها يستبطن أمل البشارة
ومعنى النذير لكلا الطرفين على ضفتي الصراع.
أمل البشارة للمسلمين يجسده صلاح الدين باعتباره نموذج الجهاد والمقاومة،
وظاهرة من ظواهر التغير التي يقدمها التاريخ كحالة ممكنة التكرار ربما بنماذج
معاصرة. ومعنى النذير لليهود الذين يقلقهم مجرد ذكر اسم صلاح الدين الذي فك
أسر الأقصى في ظروف مماثلة لمشهد اللحظة التاريخية الراهنة.
يؤكد هذه الحقيقة ما صرح به شارون لصحيفة يهودية لما سألته: لماذا هذه
المخاوف والقلق وأنت الجنرال صاحب الإنجازات والرتب العسكربة العليا؟ فقال:
أخشى أن يظهر صلاح الدين جديد في العالم العربي والإسلامي. ومع أنها أجابته
قائلة: ولكن العالمين العربي والإسلامي في حالة صعبة من التمزق والانحلال! إلا
أنه قال مستبطناً معنى النذير: في مثل هذا المشهد العربي والإسلامي ظهر صلاح
الدين.
* «الأقصى في خطر» :
شعار رفعه الشيخ المقدسي الأسير رائد صلاح تعبيراً عن المخاطر التي تُحْدِق
بالمسجد الأقصى.
ذلك الشيخ الذي قال عنه اليهود إنه الرجل الذي قدم للأقصى ما لم يقدمه
المسلمون في ثلاثمائة عام. ولكن شعار الشيخ لم يكن للاستهلاك الإعلامي، بل
ربما شعاره هذا لا يغطي حجم الأخطار التي يعيشها مسرى النبي صلى الله عليه
وسلم في الأسر.
* واقع المسجد الأقصى في الأسر:
بعد أربعة أيام من حرب حزيران عام ١٩٦٧م استولى الجيش الإسرائيلي
على مفتاح باب المغاربة، وشرعت الجرافات اليهودية بهدم المباني السكنية
التاريخية في حارة المغاربة بالإضافة الى مسجدين. وفي ١٤/٦/١٩٦٩م قامت
سلطات الاحتلال بمصادرة مبانٍ أخرى في الجهة الغربية من الأقصى في حارة
المغاربة منها المدرسة التي أنشأها الأمير المملوكي تنكز الناصري. وفي نهاية عام
١٩٦٩م استولى الاحتلال على الحائط الغربي للأقصى حتى باب المغاربة. وانتهت
هذه الأعمال بالاستيلاء على حارتي المغاربة والشرق وتهجير سكانها. وعمدت
سلطات الاحتلال إلى تشييد ساحة للصلاة قبالة حائط البراق - المبكى حسب
اعتقادهم، فقسموها إلى قسمين: أحدهما للرجال، والآخر للنساء.
* الأنفاق والحفريات:
اتبعت سلطات الاحتلال فيما يتعلق بشأن الحفريات استراتيجية التستر
والكتمان؛ فمنذ منتصف السبعينيات من القرن الميلادي الماضي جعلت نطاق الحفر
بمنأى عن الأعين وبعيداً عن الشوارع والأزقة الظاهرة، كما أنها منعت الصحفيين
والباحثين حتى اليهود منهم من الاقتراب من مواقع الحفريات. وقد امتدت
الحفريات زمنياً وميدانياً في (١٠) مراحل منذ نهاية عام ١٩٦٧م وحتى الآن،
وقد اعتمدت استراتيجية الحفر في بداية العمل بالتركيز على المواقع المجاورة
والملاصقة للأقصى متركزة بالمنطقة الجنوبية والغربية، ثم انتشرت جغرافياً
وبوتيرةٍ أدنى نحو الاتجاهات الأخرى. لكن التحول الأخطر كان في توجه
السلطات بالتوغل بالحفر تحت ساحات المسجد الأقصى عبر شبكة أنفاق تقدرها
بعض المصادر الفلسطينية بنحو أربعة أنفاق أساسية يتفرع منها عدة أنفاق أخرى.
وأشهرها نفق «وارن» الذي يسميه اليهود باسم «الحشمونائيم» والممتد ما بين
باب السلسلة وباب القطانين متوغلاً أسفل ساحات الأقصى حتى سبيل قايتباي.
وهو النفق الذي اندلعت على إثر افتتاحه هبَّة الأقصى في عهد حكومة نتنياهو عام
١٩٩٦م. ولعل هذه المرحلة من أخطر المراحل؛ لأنها تقع تحت قشرة باحات
الأقصى؛ وعلى إثرها بدأ يظهر للعيان بعض التشققات في قطع الرخام التي تغطي
ساحتي مسجدي قبة الصخرة والأقصى.
وفي تقرير لمؤسسة الأقصى لإعمار المقدسات الإسلامية في ٢/١/٢٠٠٤م
كشف في مضمونه عن مخطط يهودي لحفر نفق جديد، ويشير التقرير إلى أن
هدف النفق هو فرض السيطرة على المنطقة أسفل الأقصى؛ لأن في معتقداتهم أن
من يسيطر على جزء من باطن الأرض يحق له السيطرة على ما فوقها. وكشف
«أوري شطريت» المهندس في بلدية القدس أن فكرة النفق الجديد تهدف لربط
نفق «الحشمونائيم» القائم من خلال ممر تحت الارض، تحت ساحة
«المبكى» البراق بعمق ١٢ - ١٣ متراً حتى الجدار الجنوبي، ومنه إلى
الشارع الهردياني ليصل إلى موقف سيارات جبعاتي قرب منطقة سلوان. وتشير
صحيفة يديعوت أحرونوت أن جمعية صندوق «إرث حائط المبكى» التي
تشكلت عام ١٩٨٨م والمسؤولة عن صيانة أنفاق حائط المبكى هي التي تقف وراء
المشروع، وبدعم من رئيس بلدية القدس الحالي أوري لوبوليانسكي العضو في
هذه الجمعية. ويرى بعض المراقبين أن الهدف من النفق هو تهويد المسجد
الأقصى والمناطق الملاصقة له، وتغيير واقع الأقصى لكسب أوراق في لعبة
التسوية فيما يتعلق بالأقصى، بالإضافة لتأمين مهرب للمصلين في ساحة المبكى
في حالة وقوع اضطرابات مفاجئة تضطرهم للهروب. وكذلك تشجيع قدوم
السياح الذين انخفضت أعدادهم على إثر هبة الأقصى عام ١٩٩٦م. فضلاً عن
الهدف الأساسي الرامي لخلخلة أرضية وأساسات المسجد الأقصى.
وفي فجر الأحد (١٨/١٢/١٤٢٥هـ الموافق ٨/٢/٢٠٠٤م) قامت جمعية
«العاد» الاستيطانية بالاستيلاء على ١٦ منزلاً فلسطينياً في منطقتي سلوان
ووادي حلوة بالقدس الشرقية على بعد بضعة عشرات من الأمتار من المسجد
الأقصى وبمساعدة قوات كبيرة من الشرطة وحرس الحدود. وتهدف هذه
الخطوة لخلق تواصل بين البؤرة الاستيطانية في رأس العامود وما يسمى قلعة
داود التي تضم وادي حلوة وسلوان، وربطها بالمشروع الاستيطاني السياحي في
باب المغاربة ومنها إلى حائط البراق تمهيداً لتهويد الجزء الجنوبي من المدينة
المقدسة.
* انهيار طريق باب المغاربة:
في منتصف ليلة السبت (٢٥/١٢/١٤٢٥هـ الموافق ١٥/٢/٢٠٠٤م انهار
الجزء الأوسط من الجدار الاستنادي الشمالي للتلة الترابية المؤدية إلى باب المغاربة
الواقع على الحائط الغربي للمسجد الأقصى، وعلى إثر ذلك أكملت سلطات
الاحتلال هدم الجهة الشرقية والغربية لجدران التلة كإجراء وقائي وفق زعمهم.
وخوفاً من تساقط الصخور والأتربة على القسم الجنوبي الملاصق للتلة من ساحة
المبكى المخصص لمصلى للنساء اليهوديات. والممر فوق التلة يتضمن أقواساً
قناطر بنيت في العهد المملوكي قبل ٨٠٠ سنة، واستخدم في بنائها الحجر الجيري
والرملي؛ وعلى النمط المعماري الذي كان سائداً في مصر والشام آنذاك؛ واستمر
خلال العصر التركي. ويستخدم الطريق فوق التلة المنهارة كممر للمصلين القادمين
من باب المغاربة على سور المدينة أو من داخل البلدة القديمة ذاتها باتجاه باب
المغاربة الداخلي الواقع في الجدار الغربي للمسجد الأقصى.
وقد أشار الدكتور معين صادق مدير عام الآثار والتراث الثقافي لمحافظات
غزة وأستاذ آثار فلسطين بالجامعة الإسلامية بغزة في دراسة خاصة أشار إلى
المحاولات اليهودية المتكررة لإزالة هذه التلة الترابية بعد تجريف حارة المغاربة
بُعيد حرب عام ١٩٦٧م بهدف إغلاق باب المغاربة بشكل تام؛ إذ بدأت المحاولات
في عقد الستينيات من القرن الميلادي الماضي، ولكن بسبب تصدي أهالي القدس
أُحبطت تلك الجهود. وفي تموز ١٩٩٣م أعادت بلدية القدس محاولاتها لهدم التلة؛
وفي محاولة للتمويه على أهدافهم وللإيحاء للمسلمين بعدم وجود نية لإغلاق باب
المغاربة اقترح عامو مار حاييم رئيس بلدية القدس بالوكالة في عام ١٩٩٣م تركيب
جسر من السلالم بدلاً من هذه التلة يمتد فوق ساحة البراق لكي يستخدمه المصلون
العابرون لباب المغاربة. ولكن الخطة اصطدمت بمعارضة سكان المدينة وحالوا
دون تنفيذها.
ويبتغي اليهود من إزالة هذه التلة زيادة امتداد حائط البراق - المبكى -
وتوسعة الساحة الممتدة قبالته المخصصة للمصلين اليهود. وتعود أسباب انهيار
التلة إلى أنها تقع في دائرة سيطرة أمنية يهودية، ولم تسمح سلطات الاحتلال
لمؤسسة الأقصى ولا لدائرة الأوقاف الإسلامية بالقدس للكشف عن حالتها أو
صيانتها مما أدى إلى انهيارها.
* خطورة الوضع الراهن:
خلال السنوات الثلاث الماضية تعرضت أبنية المسجد الأقصى لعدة انهيارات
وتشققات أهمها الانهيار الذي حدث في مبنى المتحف الإسلامي القريب من منطقة
باب المغاربة؛ وسبقه انهيار آخر كبير في الجدار الجنوبي للمسجد جهة حائط
البراق، بالإضافة للانهيار الأخير للتلة الترابية المؤدية لباب المغاربة، فضلاً عن
التشققات الظاهرة للعيان في أرضية مسجدي قبة الصخرة والأقصى؛ جراء شبكة
الأنفاق التي تخترق باطن الأرض تحت ساحات المسجد الأقصى. كل ذلك في ظل
السياسة الصارمة التي تتبعها سلطات الاحتلال في منع دخول مواد البناء لساحات
الأقصى بغرض أعمال الترميم. كما أن أعماق الحفر المسموح بها لأجل البناء
والترميم داخل ساحات الأقصى لا تتجاوز الـ ٢٠ سنتمتراً. وقد فرض الاحتلال
هذه الإجراءات بعدما نجح الشيخ رائد صلاح من خلال مؤسسة الأقصى في ترميم
وتجهيز المصلى المرواني الذي يقع أسفل المسجد الأقصى. وهو ذات النجاح الذي
دفع اليهود لإيداعه السجن أيضاً.
وتهدف سياسة الحصار الحالية المتبعة تجاه المسجد الأقصى لتركه كي يتآكل
تدريجياً بسبب عوامل الطبيعة والزمن فضلاً عن أعمال الحفر التي تقوّض أساساته.
ومن حينٍ لآخر تقوم سلطات الاحتلال ببعض الأعمال كبالونات اختبار لقياس ردة
فعل العالم الإسلامي، وربما يأتي إكمال هدم التلة الترابية على إثر الانهيار الأخير
كواحد من تلك البالونات.
هذا حال الأقصى الأسير.. ومآذنه تنادي ضمائركم.. فهل من مجيب؟