[السفير زلماي زاده والرسالة الخفية في مهمته]
سيف العبيدي
لم يكن مفاجأة استبدال (نغروبنتي) بأحد أهم أركان اليمين المتطرف في الإدارة الأمريكية والمشارك الرئيس بوضع خطط واستراتيجية الحرب على العراق واحتلاله؛ وذلك لما تعانيه الإدارة الأمريكية من تخبط في سياستها في العراق، فكان المذكور ضالة الرئيس بوش المنشودة وهو من قبيلة البشتون الأفغانية
ولد في أفغانستان، وأكمل الدراسة في جامعة شيكاغو، وفي الثمانينيات من القرن الماضي عمل في الخارجية الأمريكية في فترة حكم ريغان. وقد كان له دور مهم في تلك الفترة؛ حيث قام بالمساعدة في إمداد المجاهدين الأفغان في حربهم ضد السوفييت. وهو عضو مؤسس لمشروع القرن الأمريكي الجديد، وقد عمل أعضاء هذا المشروع على اتخاذ موقف معاد وشديد تجاه العراق منذ بداية تأسيسه؛ فقد وجه أعضاء هذا المشروع عام ١٩٩٨م رسالة إلى الرئيس كلينتون طالبوه فيها بإزاحة النظام العراقي بأي شكل من الأشكال، واعتبروا أن هذا هو هدف استراتيجي للسياسة الخارجية الأمريكية.
وصار دور (زاده) أكبر عند تولي بوش الرئاسة حيث جمع حوله مجموعة كبيرة من الساسة الأكثر تطرفاً وفاشية في الإدارة الأمريكية الحالية، وكان (زلماي) أحدهم، وازداد نجم (زلماي) سطوعاً بعد أن عُين عضواً في مجلس الأمن القومي الأمريكي ومساعداً خاصاً لبوش لشؤون الشرق الأدنى وجنوب غرب آسيا وشمال أفريقيا. بعد هذا التطور الجديد في عمل (زاده) اعتبره المراقبون المسؤول الأول عن المناطق المشتعلة في العالم. ولا يفوتني أن أذكر أنه قبل الحرب على العراق عُين مبعوثاً من قِبَل الأمريكان ليتحاور مع الذين يدَّعون أنهم معارضة عراقية قبل الحرب؛ وذلك ليس غريباً إذا علمنا أنه يرتبط بعلاقة حميمة مع أحمد الجلبي الذي درس هو أيضاً في جامعة شيكاغو.
وقد كان (زاده) الراعي الأول لمؤتمرات لندن وأربيل عام ٢٠٠٢، وأشرف على مؤتمر الناصرية بعد السقوط بشكل مباشر، وقبل ذلك في عام ١٩٩٢ أصبح (زاده) مساعد نائب وزير الدفاع لشؤون تخطيط سياسات الجيش الأمريكي. ولعل سبب تقلد (المذكور) لهذه المناصب الحساسة والتي آخرها منصب السفير الأمريكي لأخطر بقعة في الأرض عند الإدارة الأمريكية (العراق) ما هو إلا بسبب أفكاره اليمينية المتطرفة التي تدير دفة السياسة الأمريكية الآن. وأرى كما يرى كل المراقبين أن تعيين (وولفويتز) لرئاسة البنك الدولي و (جون بولتون) سفيراً لأمريكا لدى الأمم المتحدة و (زاده) سفيراً في العراق أن الإدارة الأمريكية عازمة على مخططات جديدة ومن ثَم مساع جديدة للسيطرة على دول أخرى هذا إذا استطاعت أن تخرج أقدامها من وحل العراق.
ونعود إلى الدور الذي جاء يحمله (زاده) إلى العراق.
إن لـ (زلماي خليل زاده) حقداً بل أحقاداً دفينة على العراق انتهت باحتلاله؛ فهو واضع السياسات التي أُعدت لحرب الخليج، وهو الذي طلب علناً من (بوش الأب) أن تُقَوَّى إيران وأن يُحتوى العراق؛ لأن ضعف إيران في المنطقة يعتبره الأمريكان مشكلة في سياساتهم غير المحدودة. وبالرغم من أن (زاده) يحمل الجنسية الأفغانية وهو مسلم؛ إلا أن المجموعة اليمينية المتطرفة في حزب الليكود تعتبره من أكبر الداعمين لها. وما ترشيح بوش لـ (زاده) للعمل سفيراً في العراق إلا تعبير عن أهمية العراق في السياسة الأمريكية والصهيونية، وليبعث رسالة في أن المحافظين الجدد هم من يحكم أمريكا اليوم.
ومن أسباب اختيار (زاده) لهذا المنصب هو خبرته النفطية التي تؤهله لذلك؛ فقد حاول التفاوض مع شركات نفط أفغانية، ولقد اضطر أن يدافع عن طالبان علناً ليحصل على ما يريد، وعلاقته بشركات (ديك تشيني) النفطية في العراق معروفة وهو الآن يمهد كثيراً لعمل هذه الشركات التي استولت على كل العقود النفطية تقريباً. ولكون الرجل قد نفذ مهمات كتلك في بلده أفغانستان حينما كان يدعم طالبان دعماً عسكرياً ولوجستياً، وهو الذي مهد لشخص مثل (حميد كرزاي) لتولي رئاسة أفغانستان، وسيَّر العملية السياسة بما يخدم مصالح أمريكا.
فهو الذي أدخل بعض قادة تحالف الشمال في العملية السياسية في أفغانستان، وبضغوط منه صدر العفو عن حركة طالبان. حتى إن تجارة الأفيون والهيروين بلغت أوجها خلال عمله سفيراً في أفغانستان؛ لأن هذه التجارة يسيطر عليها قواد تحالف الشمال. وعندما دفعت به أمريكا إلى العراق أرادت استخدامه كمحرقة للمتطرفين الشيعة في العراق مثل إبراهيم الجعفري والحكيم والجلبي وغيرهم؛ مثلما استخدم جنرالات تحالف الشمال في أفغانستان، وحتى يصبح العراقيون ناقمين على (المد الصفوي العارم المتطرف) وبحيث تصبح النظرة أن هؤلاء هم أكثر ضرراً من الأمريكان أنفسهم. أي بعبارة أخرى: القيام بحرق كل هذه الأوراق التي لعبت بها بعد أن استعملتهم سياطاً في كل من العراق وأفغانستان. وهكذا ستضطر الإدارة الأمريكية والعراقيون أنفسهم إلى استبدال هؤلاء الساسة والمجيء بآخرين أكثر اعتدالاً ليُرضوا طموحات هذا الشعب من جهة (إذا بقيت له طموحات تتعدى الحلم بالمحروقات والماء والكهرباء) ويؤمِّن البقاء الأمريكي ونهب الثروات وتفعيل المشروع الأمريكي من جهة أخرى ليس في العراق فحسب، بل في كل المنطقة. وهذه الخطة بدت معالمها واضحة وجلية على الساحة العراقية، وهذه هي أهم أسباب قدوم (زلماي) إلى العراق. أما السبب الإستراتيجي فيحتاج إلى وقفة.
فالإدارة الأمريكية تعي حرج موقفها بعد أن تكشفت لرجال الكونغرس ورجال الصحافة حقائق ما يحصل في العراق، وبدأت تتسرب الى الشعب الأمريكي تخبطاتها، فإنها لمست على أبواب الفلوجة المجاهدة عنوان إخفاقها في الملحمة الأولى، وكذلك جميع مدن السنَّة في شهري آذار - نيسان/ عام ٢٠٠٤. وبعد أن تصاعدت وتيرة العمليات النوعية والكمية للمقاومة التي تخطت ١٢٠ عملية مؤثرة في اليوم الواحد في أشهر آب، تشرين الثاني ٢٠٠٤، عكفت مراكز البحوث الأمريكية ومؤسسات الفكر على صياغة استراتيجية الخروج، ونشرت هذه المراكز عشرات الدراسات العسكرية والاستخباراتية والتحليلات السياسية التي اعتمدت على آراء القادة العسكريين الميدانيين والمسؤولين السياسيين والاستخباريين، فأكدت جميع تلك الدراسات على صعوبة أو استحالة القضاء على المقاومة العراقية عسكرياً، وأن قوات الاحتلال تواجه وضعاً صعباً للغاية؛ حيث وصل بها الإخفاق إلى حد العجز عن تأمين شارع واحد في بغداد طوله ٧ أميال، سموه شارع الموت، وهو شارع المطار. ثم عجزت هذه القوة الخيالية بتسليحها وتجهيزاتها عن السيطرة على ناحية الكرابلة والمبيت فيها ليلة واحدة، أو الدخول إلى قضاء القائم وهو قضاء واحد من أقضية محافظة الأنبار؛ فما بالك بالباقي من العراق باجمعه؟
وقد حمل ذلك الرئيس (بوش) مؤخراً على الاعتراف بهذه الحقيقة في خطابه الأسبوعي عبر الإذاعة، وتأكيده على أن قواته تواجه مشكلات عسيرة، وأن المهمة في العراق ليست سهلة ولن تنجز بين عشية وضحاها، وهو نفسه الذي أعلن للعالم من على ظهر حاملة الطائرات يوم الأول من أيار ٢٠٠٢م بأن المهمة قد أُنجزت.
ويعد استبدال (نغروبنتي) بـ (زاده) ومن قبله استبدال (بريمر) الذي لحق بأول طائرة تنقله إلى داره من هذا الجحيم الذي تصبه المقاومة عليه وعلى رعيته التابعين من عراقيين ومتحالفين يُعَدُّ الأمر محاولة مستميتة أو هو ضربة يأس في النزع الأخير لإنقاذ أميركا من هزيمة كبرى.
ولخلفية هذا الشخص في (التفاوض والمكر) يبدو أنه الرجل الأول فيما يسمى بالمصالحة الوطنية. كما أن الإدارة الأمريكية بهذا الاستبدال ترسل رسالة خفية إلى المقاومة العراقية الباسلة بأن هناك مجالاً للمصالحة.
تُرى هل فهم العراقيون اللعبة، أم أنها ستنطلي عليهم مثل أفغانستان؟ لكن الثابت، وحسب ما هو واقع أن عموم العراقيين، الذين يحمون المقاومة بدمائهم ومالهم، يعلمون علم اليقين أن المقاومة الوطنية العراقية الباسلة غير معنية بهذه المفاوضات، لسبب بسيط جداً، هو إيمانهم المطلق بالمقاومة وبمصداقية برنامجها السياسي، وبعزمها على تحرير العراق من المحتل الغاصب مهما غلت التضحيات، ولولا هذه المصداقية لما كانت المقاومة قد حققت كل هذه الانتصارات. وما لا يعلمه الأمريكان وتوابعهم، هو أن العراقيين، لا يعيرون اهتماماً للمشاريع والبرامج السياسية، بقدر ما يعيرون اهتماماً بمصداقية أصحابها.