[فالجواب]: أن يقول منْ يُجوّز الإقدام عَلَى تلك الحالة بتلك القيود المذكورة، يلزمه أن يُجوّز ما هو مُحرّم إجماعًا. بيان ذلك أنه لو قَالَ له عَلَى تلك الحال بتلك القيود: اقتل فلانًا المسلم، أو ازن بفلانة، أو اشرب الخمر، لم يجُز الإقدام عَلَى شيء منْ ذلك بالإجماع، ولو كانت له تلك القيود كلّها، ولافرق بين صورة الحكاية المذكورة، وبين هذه الصور التي ذكرناها، إذ الكلّ محرّمٌ قطعًا، وإن جُوّز انخراق العادة فِي أن النار لا تحرق، والسيف لا يحُزّ الرقبة، والْمُدْية لا تقطع الحلق، لكنّ هذه التجويزات لا يُلتفت إليها، ولا تَهُدّ القواعد الشرعيّة لأجلها، فلو أقدم عَلَى شيء منْ تلك الأمور لأجل أمر هَذَا الشيخ، لكان عاصيًا، فكذلك إذا ألقى نفسه فِي النار، ولا فرق.
ثم نقول: إن التوكّل عَلَى الله لا يصحّ مع المخالفة والمعصية، وذلك أن التوكّل عَلَى الله تعالى هو الاعتماد عليه، والتفويض إليه فيما يجوز الإقدام عليه، أو فيما يُخاف وقوعه، أو يُرتجى حصوله، وَقَدْ يُفضي التوكّل بصاحبه إلى أن لا يخاف شيئًا إلا الله، ولا يرجو سواه؛ إذ لا فاعل عَلَى الحقيقة إلا هو، وهذه الحالة إنما تثمرها المعرفة بالله تعالى، وباحكامه، وملازمة الطاعة والتقوى، والتوفيق الخاصّ الإلهيّ، وعلى هَذَا فمن المحال حصول هذه الحالة مع المعصية والمخالفة، والصحيح ما قاله رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم:"لو دخلوها ما خرجوا منها"، وهذا هو الحقّ المبين، ولو كره أكثر الجاهلين.
ومن نوع هذه الحكاية حكاية أبي حمزة الذي وقع فِي البئر، ثم جاء قومٌ، وغطّوا البئر، وهو فِي قعره ساكت، لم يتكلّم، متوكّلًا عَلَى الله تعالى إلى أن غطّوا البئر، وانصرفوا. وللكلام فِي هَذَا موضع آخر. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله تعالى (١).
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الذي ذكره القرطبيّ رحمه الله تعالى كلام نفيسٌ جدًا، فإن مثل هذه الحكايات كثيرة فِي هذه الطائفة، ومن يُطالع "طبقات الأولياء" للشعرانيّ يرى العجب العجاب، فتنبّه أيها العاقل، ولا تغترّ بمثل هَذَا، وهذا هو الحقّ الأبلج، {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ}، نسأل الله تعالى أن يهدينا الصراط المستقيم، اللَّهم أرنا الحقّ حقاً، وارزقنا اتّباعه، وأرنا الباطل باطلًا، وارزقنا اجتنابه. آمين آمين آمين. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.