حَكَما على رِوايته، كما مرَّ في الوجه الأوَّلِ. وقد اتَّفَق أهلُ العِلم جميعًا على أنَّ هؤلاء الأئمَّةَ من كبار المُجتَهِدِين، وأنَّهم إذا اتَّفَقُوا على كلمةٍ في راوٍ فهذا يعني أنَّ كُلَّ إمامٍ سَبَرَ مَروِيَّاتِ هذا الرَّاوِي، على عادَتِهم في ذلك، ثُمَّ خَرَج بهذا الحُكمِ عليه. ولا يَعنِي هذا أنَّهُم كانوا يَحكُمون على الرُّواة دُون النَّظَرِ إلى ما قاله أهلُ العلم السَّابِقِينَ عليهم فيه، بل كانُوا يَنقُلُون كلامَهم، موافقين لَهُم عليه، لا مُقلِّدين، مثلما يَفعَلُ الغُمارِيُّ وغيرُه إذا تَبَنَّوْا حُكمًا على راوٍ ما، أو حُكمًا فِقهيًّا، فهو مسبوقٌ إلى القول الذي انتَحَلَهُ قَطعًا، فلو قُلتَ له: أنتَ مُقلِّدٌ في هذا الحُكم لأنك مسبوقٌ، لأَنكَرَ عليكَ غايةَ الإنكار، وقال: أنا وافقتُهُم في هذا بعد بحثٍ وتَحَرٍّ، ولا يستطيعُ أن يقول غيرَ ذلك، وإلَّا رَمَى نفسَه بالتَّقليد. وقد تقدَّم ما يَدُلُّ على الذي سيحصُل لك إذا رمَيتَه بهذا!
نعم! قد يُقلِّد العالمُ غيرَه من أَهلِ الاجتهادِ إذا لم يَكُن له رأيٌ في المسألةِ، لكنَّهُ يكونُ بصيرًا عادةً بما يختارُهُ من قولِ من سَبَقُوه، وإن لم يكن له رأيٌ خاصٌّ. ولكن، تبقى هذه المسألةُ من النَّادِر الذي لا يُقاسُ عليه. والمسائلُ المتعلِّقة بالاجتهادِ والتَّقليدِ كثيرةٌ مُتشعِّبةٌ، وفيها تفصيلٌ كثيرٌ، والحقُّ وَسَطٌ دائمًا بين طَرَفي نقيضٍ.
فهذه الدَّعوى الباطلةُ: أنَّ المُتأخِّرَ لا بُدَّ أن يُقلِّد المتقدِّم إذا وافقه في القول، لا تَنطَبِقُ على الأئمَّة القُدامَى، فهم أهلُ الاجتهادِ حقًّا. فجَرَّهُ عدمُ التزام العدلِ أن يُسَوِّي بين أهل الاجتهاد من المتقدِّمين، وأهلِ التَّقليدِ من المُتأخِّرين.