[تفسير قوله تعالى: (ذلك الكتاب)]
الآن ينتقل إلى الغيبة، ويتحدث عن كتاب غائب، أي كتاب؟ إنه ذلك الكتاب؛ ولذلك إذا مدحت الرجل قلت: ذلك الرجل، وذلك البطل، فالبعد فيه عظمة، فقال تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ} ولم يقل: القرآن؛ لأنه هو الكتاب، أي: كأن غيره ليس بكتاب، وسيبويه لما ألف كتاباً في النحو سماه الكتاب، وأنت إذا أردت أن تمدح الرجل قلت: الرجل رجل.
وهو رجل وكل الناس الذكور رجال، لكن في الناس رجل ورجيل.
أتى رجل إلى الأحنف بن قيس فقال: عندي حويجة بسيطة (سهلة).
قال: التمس رجيلاً، أما أنا فرجل للمعضلات.
يقول: لا تأتني بالصغائر هذه وتشغل وقتي بها، ولكن التمس لها رجيلاً صغيراً على قدرها، أما أنا فرجل للمعضلات.
وقد صدق، فهو رجل المعضلات، حتى يقول عامر الشعبي: سبحان من ساوى في الدية بين الناس! فلو قتل طفل صغير ذكر فديته ودية الأحنف بن قيس بعقله وحلمه سواء! فالناس في الديات سواء، ولكنهم في العقول يختلفون.
ودعونا نستطرد قليلاً في الأحنف بن قيس يقال: اختلفت قبائل اليمن وقبائل العراق في المسجد حتى سل بعضهم السيوف على بعض، فقام أمير الكوفة فأسكتهم فما سكتوا، وما بقي إلا وقت يسير ويسيل الدم وتضرب الرءوس وتنزل عن أكتافها، فتنة لا يعلمها إلا الله! فقال الأمير لأحد المسلمين: اذهب إلى الأحنف بن قيس وتعال به، فإنهم إذا رأوه سكتوا.
قال: فذهبت إلى الأحنف فطرقت عليه الباب -وأنا لا أعرفه لكنهم دلوني عليه- فخرج لي رجل أشل (على نصف فقط) أحنف (نحيف) مفلفل الشعر، ضعيفاً هزيلاً، وهو محتزم بسلب (بخيط من سلب) فأدخلني فقلت: أين الأحنف -وهو الأحنف -؟ قال: اجلس افطر وسيأتيك الآن.
قلت: الناس سوف يقتتلون في المسجد.
قال: ما عليك، اجلس.
فأجلسني وأتى بخبز وزيت وملح وماء، ثم أتى يأكل، فما استطعت أن آكل معه من خوفي على الناس، فقلت: أين الأحنف؟ قال: الذي يحدثك.
فأتاني من البهت ما الله به عليم!! فقلت: أأنت الأحنف وتأكل هذا؟ قال: زيت من زيت الشام، وماء من ماء دجلة، وخبز من خبز العراق وتقول: لا آكله! هذه نعمة من نعم الله.
فلما انتهى غسل يده ثم أخذ عصاً معه، فلما دخل المسجد سلم على الناس وأخذ يهلل ويكبر، فسكت الناس وأخذوا يدخلون سيوفهم في أغمادها، فصعد المنبر فألقى كلمة ما سمعت بأفصح منها؛ فأصلح بين القبيلتين وصلحوا! قال أحد الناس: من هذا؟ قال الأمير: هذا الأحنف بن قيس الذي إذا غضب غضب له عشرة آلاف سيف لا يسألونه فيم غضب.
في بني تميم عشرة آلاف، إذا غضب الأحنف بن قيس غضبوا ولا يسألون ما سبب الغضب، ويقاتلون معه.
تكلم الأحنف بن قيس على معاوية في مجلسه، وهو خليفة -رضي الله عنه وأرضاه- قال: يا معاوية! إن السيوف التي قاتلناك بها في أغمادها، وإن القلوب التي أبغضناك بها إنها لفي صدورنا، والله إن عدت عدنا.
فدخل معاوية فقالت ابنته: من هذا البدوي الجافي الذي يتكلم عليك أمام الناس وتسكت له؟ قال: هذا مولى زبراء - زبراء خادمته- الأحنف بن قيس الذي إذا غضب غضب معه عشرة آلاف سيف لا يدرون فيم غضب.
فالمقصود من قوله: {ذَلِكَ الْكِتَابُ} أي: لعظمة هذا الكتاب، وسيبويه سمى كتابه في النحو الكتاب، ولما توفي رئي في المنام فقيل له: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي.
قالوا: بماذا؟ قال: لما أتيت إلى لفظ الجلالة في النحو قلت: لفظ الجلالة أعرف المعارف فلا يُعرَّف.
لفظ "الله" لم يعرفه مثل الأسماء، بل قال: لفظ الجلالة أعرف المعارف فلا يُعرَّف، فأدخله الله الجنة.