النُّبُوَّةِ، وَذَلِكَ الْجُزْءُ يَكْثُرُ مَرَّةً وَيَقِلُّ أُخْرَى بِحَسَبِ فَهْمِهِ، فَأَعْلَاهُمْ مَنْ يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ دَرَجَةِ النُّبُوَّةِ أَقَلُّ مَا وَرَدَ مِنَ الْعَدَدِ، وَأَدْنَاهُمُ الْأَكْثَرُ مِنَ الْعَدَدِ، وَمَنْ عَدَاهُمَا مَا بَيْنَ ذَلِكَ.
وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ التَّجْزِئَةُ فِي طُرُقِ الْوَحْيِ؛ إِذْ مِنْهُ مَا سُمِعَ مِنَ اللَّهِ بِلَا وَاسِطَةٍ، وَمِنْهُ مَا جَاءَ بِوَاسِطَةِ الْمَلَكِ، وَمِنْهُ مَا أُلْقِيَ فِي الْقَلْبِ مِنَ الْإِلْهَامِ، وَمِنْهُ مَا جَاءَ بِهِ الْمَلَكُ وَهُوَ عَلَى صُورَتِهِ أَوْ عَلَى صُورَةِ آدَمِيٍّ مَعْرُوفٍ أَوْ غَيْرِ مَعْرُوفٍ، وَمِنْهُ مَا أَتَاهُ بِهِ فِي النَّوْمِ، وَمِنْهُ مَا أَتَاهُ بِهِ فِي صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ، وَمِنْهُ مَا يُلْقِيهِ رُوحُ الْقُدُسِ فِي رَوْعِهِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا وَقَفْنَا عَلَيْهِ وَمِمَّا لَمْ نَقِفْ عَلَيْهِ، فَتَكُونُ تِلْكَ الْحَالَاتُ إِذَا عُدِّدَتِ انْتَهَتْ إِلَى الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ: وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنَ التَّكَلُّفِ وَالتَّسَاهُلِ، فَإِنَّ تِلْكَ الْأَعْدَادَ إِنَّمَا هِيَ أَجْزَاءُ النُّبُوَّةِ، وَأَكْثَرُ الَّذِي ذَكَرَهُ إِنَّمَا هِيَ أَحْوَالٌ لِغَيْرِ النُّبُوَّةِ لِكَوْنِهِ يَعْرِفُ الْمَلَكَ أَوْ لَا يَعْرِفُهُ أَوْ يَأْتِيهِ عَلَى صُورَتِهِ أَوْ عَلَى صُورَةِ آدَمِيٍّ ثُمَّ مَعَ هَذَا التَّكَلُّفِ لَمْ يَبْلُغْ عَدَدَ مَا ذَكَرَ عِشْرِينَ فَضْلًا عَنْ سَبْعِينَ.
قُلْتُ: وَالَّذِي نَحَاهُ الْقَاضِي سَبَقَهُ إِلَيْهِ الْحَلِيمِيُّ فَقَرَأْتُ فِي مُخْتَصَرِهِ لِلشَّيْخِ عَلَاءِ الدِّينِ الْقُونَوِيِّ بِخَطِّهِ مَا نَصُّهُ: ثُمَّ إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ يَخْتَصُّونَ بِآيَاتٍ يُؤَيَّدُونَ بِهَا لِيَتَمَيَّزُوا بِهَا عَمَّنْ لَيْسَ مِثْلَهُمْ، كَمَا تَمَيَّزُوا بِالْعِلْمِ الَّذِي أُوتُوهُ فَيَكُونُ لَهُمُ الْخُصُوصُ مِنْ وَجْهَيْنِ: فَمَا هُوَ فِي حَيِّزِ التَّعْلِيمِ هُوَ النُّبُوَّةُ، وَمَا هُوَ فِي حَيِّزِ التَّأْبِيدِ هُوَ حُجَّةُ النُّبُوَّةِ، قَالَ: وَقَدْ قَصَدَ الْحَلِيمِيُّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بَيَانَ كَوْنِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةِ جُزْءًا مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ فَذَكَرَ وُجُوهًا مِنَ الْخَصَائِصِ الْعِلْمِيَّةِ لِلْأَنْبِيَاءِ تَكَلَّفَ فِي بَعْضِهَا حَتَّى أَنْهَاهَا إِلَى الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ، فَتَكُونُ الرُّؤْيَا وَاحِدًا مِنْ تِلْكَ الْوُجُوهِ، فَأَعْلَاهَا تَكْلِيمُ اللَّهِ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ.
ثَانِيهَا: الْإِلْهَامُ بِلَا كَلَامٍ بَلْ يَجِدُ عِلْمَ شَيْءٍ فِي نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ تَقَدُّمِ مَا يُوصِلُ إِلَيْهِ بِحِسٍّ أَوِ اسْتِدْلَالٍ.
ثَالِثُهَا: الْوَحْيُ عَلَى لِسَانِ مَلَكٍ يَرَاهُ فَيُكَلِّمُهُ.
رَابِعُهَا: نَفْثُ الْمَلَكِ فِي رَوْعِهِ وَهُوَ الْوَحْيُ الَّذِي يَخُصُّ بِهِ الْقَلْبَ دُونَ السَّمْعِ، قَالَ: وَقَدْ يَنْفُثُ الْمَلَكُ فِي رَوْعِ بَعْضِ أَهْلِ الصَّلَاحِ لَكِنْ بِنَحْوِ الْإِطْمَاعِ فِي الظَّفَرِ بِالْعَدُوِّ وَالتَّرْغِيبِ فِي الشَّيْءِ وَالتَّرْهِيبِ مِنَ الشَّيْءِ فَيَزُولُ عَنْهُ بِذَلِكَ وَسْوَسَةُ الشَّيْطَانِ بِحُضُورِ الْمَلَكِ لَا بِنَحْوِ نَفْيِ عِلْمِ الْأَحْكَامِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ فَإِنَّهُ مِنْ خَصَائِصِ النُّبُوَّةِ.
خَامِسُهَا: إِكْمَالُ عَقْلِهِ فَلَا يَعْرِضُ لَهُ فِيهِ عَارِضٌ أَصْلًا.
سَادِسُهَا: قُوَّةُ حِفْظِهِ حَتَّى يَسْمَعَ السُّورَةَ الطَّوِيلَةَ فَيَحْفَظُهَا مِنْ مَرَّةٍ وَلَا يَنْسَى مِنْهَا حَرْفًا.
سَابِعُهَا: عِصْمَتُهُ مِنَ الْخَطَإِ فِي اجْتِهَادِهِ.
ثَامِنُهَا: ذَكَاءُ فَهْمِهِ حَتَّى يَتَّسِعَ لِضُرُوبٍ مِنَ الِاسْتِنْبَاطِ.
تَاسِعُهَا: ذَكَاءُ بَصَرِهِ حَتَّى يَكَادَ يُبْصِرُ الشَّيْءَ مِنْ أَقْصَى الْأَرْضِ.
عَاشِرُهَا: ذَكَاءُ سَمْعِهِ حَتَّى يَسْمَعَ مِنْ أَقْصَى الْأَرْضِ مَا لَا يَسْمَعُهُ غَيْرُهُ.
حَادِي عَشَرَهَا: ذَكَاءُ شَمِّهِ كَمَا وَقَعَ لِيَعْقُوبَ فِي قَمِيصِ يُوسُفَ.
ثَانِي عَشَرَهَا: تَقْوِيَةُ جَسَدِهِ حَتَّى سَارَ فِي لَيْلَةٍ مَسِيرَةَ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً.
ثَالِثَ عَشَرَهَا: عُرُوجُهُ إِلَى السَّمَاوَاتِ.
رَابِعَ عَشَرَهَا: مَجِيءُ الْوَحْيِ لَهُ فِي مِثْلِ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ.
خَامِسَ عَشَرَهَا: تَكْلِيمُ الشَّاةِ.
سَادِسَ عَشَرَهَا: إِنْطَاقُ النَّبَاتِ.
سَابِعَ عَشَرَهَا: إِنْطَاقُ الْجِذْعِ.
ثَامِنَ عَشَرَهَا: إِنْطَاقُ الْحَجَرِ.
تَاسِعَ عَشَرَهَا: إِفْهَامُهُ عُوَاءَ الذِّئْبِ أَنْ يَفْرِضَ لَهُ رِزْقًا.
الْعِشْرُونَ: إِفْهَامُهُ رُغَاءَ الْبَعِيرِ.
الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ: أَنْ يَسْمَعَ الصَّوْتَ وَلَا يَرَى الْمُتَكَلِّمَ.
الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ: تَمْكِينُهُ مِنْ مُشَاهَدَةِ الْجِنِّ.
الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ: تَمْثِيلُ الْأَشْيَاءِ الْمُغَيَّبَةِ لَهُ كَمَا مُثِّلَ لَهُ بَيْتُ الْمَقْدِسِ صَبِيحَةَ الْإِسْرَاءِ.
الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: حُدُوثُ أَمْرٍ يَعْلَمُ بِهِ الْعَاقِبَةَ كَمَا قَالَ فِي النَّاقَةِ لَمَّا بَرَكَتْ فِي الْحُدَيْبِيَةِ: حَبَسَهَا حَابِسُ الْفِيلِ.
الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ:: اسْتِدْلَالُهُ بِاسْمٍ عَلَى أَمْرٍ كَمَا قَالَ لَمَّا جَاءَهُمْ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو: قَدْ سَهُلَ لَكُمُ الْأَمْرُ.
السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ: أَنْ يَنْظُرَ شَيْئًا عُلْوِيًّا فَيَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى أَمْرٍ يَقَعُ فِي الْأَرْضِ كَمَا قَالَ: إِنَّ هَذِهِ السَّحَابَةَ لَتَسْتَهِلُّ بِنَصْرِ بَنِي كَعْبٍ.
السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: رُؤْيَتُهُ مِنْ وَرَائِهِ.
الثَّامِنَةُ وَالْعِشْرُونَ: اطِّلَاعُهُ عَلَى أَمْرٍ وَقَعَ لِمَنْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ