وَفِي التِّرْمِذِيَّ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ صَلَّى فِي وَادِي الرَّوْحَاءِ، وَقَالَ: لَقَدْ صَلَّى فِي هَذَا الْمَسْجِدِ سَبْعُونَ نَبِيًّا.
الثَّالِثُ: عُرِفَ مِنْ صَنِيعِ ابْنِ عُمَرَ اسْتِحْبَابُ تَتَبُّعِ آثَارِ النَّبِيِّ ﷺ وَالتَّبَرُّكِ بِهَا، وَقَدْ قَالَ الْبَغَوِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: إِنَّ الْمَسَاجِدَ الَّتِي ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ صَلَّى فِيهَا لَوْ نَذَرَ أَحَدٌ الصَّلَاةَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا تَعَيَّنَ كَمَا تَتَعَيَّنُ الْمَسَاجِدُ الثَّلَاثَةُ (١).
الرَّابِعُ: ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ الْمَسَاجِدَ الَّتِي فِي طُرُقِ الْمَدِينَةِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْمَسَاجِدَ الَّتِي كَانَتْ بِالْمَدِينَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ لَهُ إِسْنَادٌ فِي ذَلِكَ عَلَى شَرْطِهِ. وَقَدْ ذَكَرَ عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ فِي أَخْبَارِ الْمَدِينَةِ الْمَسَاجِدَ وَالْأَمَاكِنَ الَّتِي صَلَّى فِيهَا النَّبِيُّ ﷺ بِالْمَدِينَةِ مُسْتَوْعِبًا، وَرَوَى عَنْ أَبِي غَسَّانَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ كُلَّ مَسْجِدٍ بِالْمَدِينَةِ وَنَوَاحِيهَا مَبْنِيٌّ بِالْحِجَارَةِ الْمَنْقُوشَةِ الْمُطَابَقَةِ، فَقَدْ صَلَّى فِيهِ النَّبِيُّ ﷺ وَذَلِكَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ حِينَ بَنَى مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ سَأَلَ النَّاسَ - وَهُمْ يَوْمَئِذٍ مُتَوَافِرُونَ - عَنْ ذَلِكَ ثُمَّ بَنَاهَا بِالْحِجَارَةِ الْمَنْقُوشَةِ الْمُطَابَقَةِ اهـ.
وَقَدْ عَيَّنَ عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ مِنْهَا شَيْئًا كَثِيرًا، لَكِنَّ أَكْثَرَهُ فِي هَذَا الْوَقْتِ قَدِ انْدَثَرَ، وَبَقِيَ مِنَ الْمَشْهُورَةِ الْآنَ مَسْجِدُ قُبَاءٍ، وَمَسْجِدُ الْفَضِيخِ وَهُوَ شَرْقِيَّ مَسْجِدِ قُبَاءٍ، وَمَسْجِدُ بَنِي قُرَيْظَةَ، وَمَشْرَبَةُ أُمِّ إِبْرَاهِيمَ وَهِيَ شَمَالَيَّ مَسْجِدِ بَنِي قُرَيْظَةَ، وَمَسْجِدُ بَنِي ظَفَرٍ شَرْقِيَّ الْبَقِيعِ، وَيُعْرَفُ بِمَسْجِدِ الْبَغْلَةِ، وَمَسْجِدُ بَنِي مُعَاوِيَةَ، وَيُعْرَفُ بِمَسْجِدِ الْإِجَابَةِ، وَمَسْجِدُ الْفَتْحِ قَرِيبٌ مِنْ جَبَلِ سَلْعٍ، وَمَسْجِدُ الْقِبْلَتَيْنِ فِي بَنِي سَلَمَةَ، هَكَذَا أَثْبَتَهُ بَعْضُ شُيُوخِنَا، وَفَائِدَةُ مَعْرِفَةِ ذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ عَنِ الْبَغَوِيِّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
٩٠ - بَاب سُتْرَةُ الْإِمَامِ سُتْرَةُ مَنْ خَلْفَهُ
٤٩٣ - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: أَقْبَلْتُ رَاكِبًا عَلَى حِمَارٍ أَتَانٍ وَأَنَا يَوْمَئِذٍ قَدْ نَاهَزْتُ الِاحْتِلَامَ وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُصَلِّي بِالنَّاسِ بِمِنًى إِلَى غَيْرِ جِدَارٍ، فَمَرَرْتُ بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِ الصَّفِّ، فَنَزَلْتُ وَأَرْسَلْتُ الْأَتَانَ تَرْتَعُ وَدَخَلْتُ فِي الصَّفِّ، فَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيَّ أَحَدٌ.
(أَبْوَابُ سُتْرَةِ الْمُصَلِّي)
قَوْلُهُ: (بَ بُ سُتْرَةِ الْإِمَامِ سُتْرَةُ مَنْ خَلْفَهُ) أَوْرَدَ فِيهِ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ، الثَّانِي وَالثَّالِثُ مِنْهَا مُطَابِقَانِ لِلتَّرْجَمَةِ لِكَوْنِهِ ﷺ لَمْ يَأْمُرْ أَصْحَابَهُ أَنْ يَتَّخِذُوا سُتْرَةً غَيْرَ سُتْرَتِهِ، وَأَمَّا الْأَوَّلُ وَهُوَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَفِي الِاسْتِدْلَالِ بِهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ ﷺ صَلَّى إِلَى سُتْرَةٍ، وَقَدْ بَوَّبَ عَلَيْهِ الْبَيْهَقِيُّ بَابُ مَنْ صَلَّى إِلَى غَيْرِ سُتْرَةٍ وَقَدْ تُقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ فِي الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ فِي بَابِ مَتَى يَصِحُّ سَمَاعُ الصَّغِيرِ، قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: إِنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِلَى غَيْرِ جِدَارٍ أَيْ: إِلَى غَيْرِ سُتْرَةٍ، وَذَكَرْنَا تَأْيِيدَ ذَلِكَ مِنْ رِوَايَةِ الْبَزَّارِ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: قَوْلُهُ إِلَى غَيْرِ جِدَارٍ لَا يَنْفِي غَيْرَ الْجِدَارِ، إِلَّا أَنَّ إِخْبَارَ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ مُرُورِهِ بِهِمْ وَعَدَمِ إِنْكَارِهِمْ لِذَلِكَ مُشْعِرٌ بِحُدُوثِ أَمْرٍ لَمْ يَعْهَدُوهُ، فَلَوْ فُرِضَ هُنَاكَ سُتْرَةٌ أُخْرَى غَيْرُ الْجِدَارِ لَمْ يَكُنْ لِهَذَا الْإِخْبَارِ فَائِدَةٌ، إِذْ مُرُورُهُ حِينَئِذٍ لَا يُنْكِرُهُ أَحَدٌ أَصْلًا.
وَكَأَنَّ الْبُخَارِيَّ حَمَلَ الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ عَلَى الْمَأْلُوفِ الْمَعْرُوفِ مِنْ عَادَتِهِ ﷺ أَنَّهُ
(١) هذا ضعيف، والصواب أنه لايتعين شيء من المساجد بالنذر سوى المساجد الثلاثة إذا احتاج إلى شد رحل، فإن لم يحتج لذلك فهو موضع نظر واختلاف. وأما هذه المساجد التي أشار اليها البغوي فالصواب أنه لايجوز قصدها للعبادة ولا ينبغي الوفاء لمن نذرها سدا لذريعة الشرك، ويكفيه أن يصلي في غيرها من المساجد الشرعية. والله أعلم