للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

غَيْرُهُ، قَالَ: وَقَدْ سَبَقَ بِهَذَا الْجَوَابِ جَمَاعَةٌ لَكِنَّهُمْ لَمْ يَكْشِفُوهُ وَلَمْ يُحَقِّقُوهُ.

وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: أَجْزَاءُ النُّبُوَّةِ لَا يَعْلَمُ حَقِيقَتَهَا إِلَّا مَلَكٌ أَوْ نَبِيٌّ، وَإِنَّمَا الْقَدْرُ الَّذِي أَرَادَهُ النَّبِيُّ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ الرُّؤْيَا جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ فِي الْجُمْلَةِ لِأَنَّ فِيهَا اطِّلَاعًا عَلَى الْغَيْبِ مِنْ وَجْهٍ مَا، وَأَمَّا تَفْصِيلُ النِّسْبَةِ فَيَخْتَصُّ بِمَعْرِفَتِهِ دَرَجَةُ النُّبُوَّةِ.

وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: لَا يَلْزَمُ الْعَالِمَ أَنْ يَعْرِفَ كُلَّ شَيْءٍ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا، فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِلْعَالِمِ حَدًّا يَقِفُ عِنْدَهُ، فَمِنْهُ مَا يَعْلَمُ الْمُرَادَ بِهِ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا، وَمِنْهُ مَا يَعْلَمُهُ جُمْلَةً لَا تَفْصِيلًا، وَهَذَا مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ.

وَقَدْ تَكَلَّمَ بَعْضُهُمْ عَلَى الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ وَأَبْدَى لَهَا مُنَاسَبَةً؛ فَنَقَلَ ابْنُ بَطَّالٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ السَّفَاقِسِيِّ أَنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ ذَكَرَ أَنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَى نَبِيِّهِ فِي الْمَنَامِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ أَوْحَى إِلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْيَقَظَةِ بَقِيَّةَ مُدَّةِ حَيَاتِهِ، وَنِسْبَتُهَا مِنَ الْوَحْيِ فِي الْمَنَامِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا لِأَنَّهُ عَاشَ بَعْدَ النُّبُوَّةِ ثَلَاثًا وَعِشْرِينَ سَنَةً عَلَى الصَّحِيحِ.

قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: هَذَا التَّأْوِيلُ يَفْسُدُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَدِ اخْتُلِفَ فِي قَدْرِ الْمُدَّةِ الَّتِي بَعْدَ بَعْثَةِ النَّبِيِّ إِلَى مَوْتِهِ، وَالثَّانِي أَنَّهُ يَبْقَى حَدِيثُ السَّبْعِينَ جُزْءًا بِغَيْرِ مَعْنًى.

قُلْتُ: وَيُضَافُ إِلَيْهِ بَقِيَّةُ الْأَعْدَادِ الْوَاقِعَةِ. وَقَدْ سَبَقَهُ الْخَطَّابِيُّ إِلَى إِنْكَارِ هَذِهِ الْمُنَاسَبَةِ فَقَالَ: كَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُ فِي تَأْوِيلِ هَذَا الْعَدَدِ قَوْلًا لَا يَكَادُ يَتَحَقَّقُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ أَقَامَ بَعْدَ الْوَحْيِ ثَلَاثًا وَعِشْرِينَ سَنَةً وَكَانَ يُوحَى إِلَيْهِ فِي مَنَامِهِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ وَهِيَ نِصْفُ سَنَةٍ فَهِيَ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ.

قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَهَذَا وَإِنْ كَانَ وَجْهًا تَحْتَمِلُهُ قِسْمَةُ الْحِسَابِ وَالْعَدَدِ فَأَوَّلُ مَا يَجِبُ عَلَى مَنْ قَالَهُ أَنْ يُثْبِتَ بِمَا ادَّعَاهُ خَبَرًا، وَلَمْ يُسْمَعْ فِيهِ أَثَرٌ وَلَا ذَكَرَ مُدَّعِيهِ فِي ذَلِكَ خَبَرًا، فَكَأَنَّهُ قَالَهُ عَلَى سَبِيلِ الظَّنِّ وَالظَّنُّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا، وَلَئِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْمُدَّةُ مَحْسُوبَةً مِنْ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ فَلْيُلْحَقْ بِهَا سَائِرُ الْأَوْقَاتِ الَّتِي كَانَ يُوحَى إِلَيْهِ فِيهَا فِي مَنَامِهِ فِي طُولِ الْمُدَّةِ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْهُ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ جَلِيلَةِ الْقَدْرِ، وَالرُّؤْيَا فِي أُحُدٍ وَفِي دُخُولِ مَكَّةَ فَإِنَّهُ يَتَلَفَّقُ مِنْ ذَلِكَ مُدَّةٌ أُخْرَى وَتُزَادُ فِي الْحِسَابِ فَتَبْطُلُ الْقِسْمَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا.

قَالَ: فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى ضَعْفِ مَا تَأَوَّلَهُ الْمَذْكُورُ، وَلَيْسَ كُلُّ مَا خَفِيَ عَلَيْنَا عِلْمُهُ لَا يَلْزَمُنَا حُجَّتُهُ كَأَعْدَادِ الرَّكَعَاتِ وَأَيَّامِ الصِّيَامِ وَرَمْيِ الْجِمَارِ فَإِنَّا لَا نَصِلُ مِنْ عِلْمِهَا إِلَى أَمْرٍ يُوجِبُ حَصْرَهَا تَحْتَ أَعْدَادِهَا، وَلَمْ يَقْدَحْ ذَلِكَ فِي مُوجَبِ اعْتِقَادِنَا لِلُزُومِهَا، وَهُوَ كَقَوْلِهِ فِي حَدِيثٍ آخَرَ الْهَدْيُ الصَّالِحُ وَالسَّمْتُ الصَّالِحُ جُزْءٌ مِنْ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ فَإِنَّ تَفْصِيلَ هَذَا الْعَدَدِ وَحَصْرَ النُّبُوَّةِ مُتَعَذِّرٌ وَإِنَّمَا فِيهِ أَنَّ هَاتَيْنِ الْخَصْلَتَيْنِ مِنْ جُمْلَةِ هَدْيِ الْأَنْبِيَاءِ وَسَمْتِهِمْ، فَكَذَلِكَ مَعْنَى حَدِيثِ الْبَابِ الْمُرَادُ بِهِ تَحْقِيقُ أَمْرِ الرُّؤْيَا وَأَنَّهَا مِمَّا كَانَ الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِ، وَأَنَّهَا جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ الْعِلْمِ الَّذِي كَانَ يَأْتِيهِمْ وَالْأَنْبَاءِ الَّتِي كَانَ يَنْزِلُ بِهَا الْوَحْيُ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ قَبِلَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْمُنَاسَبَةَ الْمَذْكُورَةَ وَأَجَابُوا عَمَّا أَوْرَدَهُ الْخَطَّابِيُّ.

أَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى كَوْنِ الرُّؤْيَا كَانَتْ سِتَّةَ أَشْهُرٍ فَهُوَ أَنَّ ابْتِدَاءَ الْوَحْيِ كَانَ عَلَى رَأْسِ الْأَرْبَعِينَ مِنْ عُمْرِهِ كَمَا جَزَمَ بِهِ ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ وَذَلِكَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ وَنُزُولُ جِبْرِيلَ إِلَيْهِ وَهُوَ بِغَارِ حِرَاءٍ كَانَ فِي رَمَضَانَ وَبَيْنَهُمَا سِتَّةُ أَشْهُرٍ، وَفِي هَذَا الْجَوَابِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِهِ لَيْسَ فِيهِ تَصْرِيحٌ بِالرُّؤْيَا.

وَقَدْ قَالَ النَّوَوِيُّ: لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ زَمَنَ الرُّؤْيَا لِلنَّبِيِّ كَانَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ وَأَمَّا مَا أَلْزَمَهُ بِهِ مِنْ تَلْفِيقِ أَوْقَاتِ الْمَرَائِي وَضَمِّهَا إِلَى الْمُدَّةِ فَإِنَّ الْمُرَادَ وَحْيُ الْمَنَامِ الْمُتَتَابِعُ، وَأَمَّا مَا وَقَعَ مِنْهُ فِي غُضُونِ وَحْيِ الْيَقَظَةِ فَهُوَ يَسِيرٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى وَحْيِ الْيَقَظَةِ فَهُوَ مَغْمُورٌ فِي جَانِبِ وَحْيِ الْيَقَظَةِ فَلَمْ يُعْتَبَرْ بِمُدَّتِهِ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا اعْتَمَدُوهُ فِي نُزُولِ الْوَحْيِ، وَقَدْ أَطْبَقُوا عَلَى تَقْسِيمِ النُّزُولِ إِلَى مَكِّيٍّ وَمَدَنِيٍّ قَطْعًا؛ فَالْمَكِّيُّ: مَا نَزَلَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ وَلَوْ وَقَعَ بِغَيْرِهَا مَثَلًا كَالطَّائِفِ وَنَخْلَةَ، وَالْمَدَنِيُّ: مَا نَزَلَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ وَلَوْ وَقَعَ وَهُوَ بِغَيْرِهَا كَمَا فِي الْغَزَوَاتِ وَسَفَرِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ حَتَّى مَكَّةَ.

قُلْتُ: وَهُوَ