للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وخِيرتُه وصِفوتُه من أهلِ الأرضِ يومَكم هذا؟ اختارَه اللهُ لوحيِه، واصطفاه لنفسِه، وائْتَمنه على نبوَّتِه، ثم لم تعلَموا ولم يُطلِعْكم اللهُ على أنه سخِط شيئًا من أمرِه مذ آتاه ما آتاه إلى يومِكم هذا، ولا على أنه نزَع منه شيئًا من الكرامةِ التي أكرَمه بها مذ آتاه ما آتاه إلى يومكم هذا، ولا أن أيوبَ غَيَّر الحقَّ في طولِ ما صحِبتُموه إلى يومِكم هذا، فإن كان البلاءُ هو الذي أزْرَى به عندَكم، ووضَعه في أنفسِكم، فقد علِمتم أن الله يَبتَلِى النبيِّين والصدِّيقين والشهداءَ والصالحين، ثم ليس بلاؤُه لأولئِك بدليلِ سخْطِه عليهم، ولا لهوانِه لهم، ولكنها كرامةٌ وخِيَرَةٌ لهم، ولو كان أيوبُ ليس من اللهِ بهذه المنزلةِ، ولا في النبوَّةِ ولا في الأَثرةِ ولا في الفضيلةِ ولا في الكرامةِ، إلا أنه أخٌ آخَيْتُموه (١) على وَجْهِ الصحابةِ، لكان، [وهو] (٢) لا يجمُلُ بالحكيمِ أن يعذِلَ أخاه عندَ البلاءِ، ولا يُعيِّرَه بالمصيبةِ بما لا يعلَمُ وهو مكروبٌ حزينٌ، ولكن يرحَمُه ويبكِي معه، ويستغفِرُ له، ويحزَنُ لحزنِه، ويدُلُّه على مراشِدِ أمرِه، وليس بحكيمٍ ولا رشيدٍ من جهِل هذا، فاللهَ الله أيها الكهولُ في أنفسِكم.

قال: ثم أقبَل على (٣) أيوبَ فقال، وقد كان في عَظمةِ اللهِ وجَلالِه، وذكْرِ الموتِ: ما يقطَعُ لسانَك، ويكسِرُ قلبَك، ويُنسيك حُجَجَك، ألم تعلَمْ يا أيوبُ أن للهِ عبادًا أسكتَتْهم خَشْيتُه من غيرِ عِيٍّ (٤) ولا بَكَمٍ؟ وإنهم لهم الفصحاءُ النُّطَقاءُ النبلاءُ الألبّاءُ العالمون باللهِ وبآياتِه، ولكنهم إذا ذكرُوا عظمةَ اللهِ انقطَعت ألسنتُهم، واقْشَعرَّت جلودُهم، وانكسرَت قلوبُهم، وطاشَت عقولُهم، إعظامًا للهِ، وإعزازًا وإجلالًا، فإذا استَفاقوا من ذلك استَبَقُوا إلى اللهِ بالأعمالِ


(١) في م: "أجبتموه".
(٢) سقط من: م.
(٣) في ت ٢: "إلى".
(٤) في ص، ت ١، ف: "عمي".