للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وهذا بالتأكيد تجن على فطرة الإنسان، وانحطاط به إلى مستوى الحياة العضوية والغريزية الحيوانية.

والذي نعرفه ونؤمن به وما يؤمن به أصحاب التأمل في الواقع والتاريخ، وما تدل عليه الدراسات المنصفة:

«أن الإنسان بالتعريف كائن ذو قصد وهدف، وأنه لا يستطيع الحياة بلا هدف يؤمن به، وأنه يزداد رقيا في معارج إنسانيته حين يجد الرسالة التي يؤمن بها والتي يكتسب وجوده الإنساني من خلالها معناه أنه كما يدل الواقع وكما تدل الأبحاث لا يستطيع أن يلصق بحمأة الأرض ويحيا حياته البيولوجية المحضة ما لم يتخلّ عن إنسانيته، إن صح أنه في وسعه أن يتخلى عنها، أي عن طبيعته التي جبل عليها بوصفه إنسانا، أي كائنا ما هو بالملاك ولا هو بالشيطان، بل هو عوان بينهما، تتوق طبيعته الإنسانية الملكية دوما إلى التغلب على طبيعته الحيوانية والشيطانية، وهذا هو الذي يفسر ما يتعرض له إنسان العصر الحديث من اضطرابات وأمراض في حياته النفسية حين يجرب التنكر لطبيعته الإنسانية عن طريق تنكره للقيم الإنسانية، ولا نغلو إن قلنا إن الطبيعة الإنسانية حين ينكرها إنسان العصر الحديث ظنا منه أن في وسعه أن يغيرها أو يتنكر لها، تنتقم لنفسها عن طريق وقوعها في الاضطراب والتفكك والحيرة، أي عن طريق احتمائها بالمرض «١» . حيث إن جميع الشواهد تدل على أن التدخل المنافي للطبيعة الإنسانية في نمو الشخص، أثناء الطفولة وبعدها، هو أصل الأصول في المرض العقلي والاجتماعي عامة والتدمير خاصة «٢» .

ويشهد على فقدان القيم، وتدني المستوى الإنساني، أن أسلوب العيش المرتكز على التملك والأنانية، والسلوك الذي يتركز حول الملكية والربح يؤكد الأنانية المنوطة والفردية المفرطة، فهو لا بد وأن يخلق الرغبة، بل الحاجة إلى القوة، فمن أجل السيطرة على كائنات بشرية أخرى، يحتاج الإنسان إلى استخدام القوة لتحطيم مقاومتهم، ولإحكام القبضة على ما استولينا عليه من ممتلكات خاصة فهو بحاجة لاستخدام القوة لحمايتها من الذين يمكن أن يأخذوها، لأنهم- والحال من بعضه- لا يمكن أن يقنعوا بما عندهم والرغبة في الحصول على أعلى ملكية خاصة وأكبرها تولد الرغبة في استخدام العنف من أجل سرقة الآخرين بوسائل سافرة أو خفية مما يؤكد الأنانية والفردية المطلقة «٣» .

ويتبع نزعة التمركز حول الذات والأنانية نزعة التميز عن شيء واحد ووحيد هو المتعة الفردية، والبحث الضيق عن المتعة الفردية المباشرة (اللذة الجنسية غالبا) وشيوع الأمراض النفسية الجنسية، والأمراض الجسدية الصحية، واضطرابات خطيرة في السلوك الجنسى، وانتشار المخدرات والعنف والإرهاب وما إلى ذلك من أمور


(١) عبد الله عبد الدايم، نحو فلسفة تربوية عربية، مركز دراسات الوحدة العربية، ط ١، ١٩٩١ م، ص ٢٣٩.
(٢) أريك فروم، الإنسان بين الجوهر والمظهر، ترجمة سعد زهران، مراجعة وتقديم لطفي فهيم، عالم المعرفة، العدد (١٤٠) أغسطس ٨٩، ذو الحجة ١٤٠٩ هـ، ص ٨٣.
(٣) المرجع السابق: ص ٨٣ (بتصرف يسير) .