سَعَى فِي تَأْوِيلِهَا وَلَا يُهْمِلُ أَمْرَهَا لِأَنَّهَا إِمَّا بُشْرَى بِخَيْرٍ أَوْ إِنْذَارٌ مِنْ شَرٍّ إِمَّا لِيُخِيفَ الرَّائِيَ وَإِمَّا لِيَنْزَجِرَ عَنْهُ وَإِمَّا لِيُنَبِّهَ عَلَى حُكْمٍ يَقَعُ لَهُ فِي دِينِهِ أَوْ دُنْيَاهُ.
وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: قَوْلُهُ: فَسَيَرَانِي فِي الْيَقَظَةِ يُرِيدُ تَصْدِيقَ تِلْكَ الرُّؤْيَا فِي الْيَقَظَةِ وَصِحَّتِهَا وَخُرُوجِهَا عَلَى الْحَقِّ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ يَرَاهُ فِي الْآخِرَةِ لِأَنَّهُ سَيَرَاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الْيَقَظَةِ فَتَرَاهُ جَمِيعُ أُمَّتِهِ مَنْ رَآهُ فِي النَّوْمِ وَمَنْ لَمْ يَرَهُ مِنْهُمْ.
وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: الْمُرَادُ مَنْ آمَنَ بِهِ فِي حَيَاتِهِ وَلَمْ يَرَهُ لِكَوْنِهِ حِينَئِذٍ غَائِبًا عَنْهُ فَيَكُونُ بِهَذَا مُبَشِّرًا لِكُلِّ مَنْ آمَنَ بِهِ وَلَمْ يَرَهُ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَرَاهُ فِي الْيَقَظَةِ قَبْلَ مَوْتِهِ قَالَهُ الْقَزَّازُ، وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: إِنْ كَانَ الْمَحْفُوظُ فَكَأَنَّمَا رَآنِي فِي الْيَقَظَةِ فَمَعْنَاهُ ظَاهِرٌ وَإِنْ كَانَ الْمَحْفُوظُ فَسَيَرَانِي فِي الْيَقَظَةِ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ أَهْلَ عَصْرِهِ مِمَّنْ يُهَاجِرُ إِلَيْهِ فَإِنَّهُ إِذَا رَآهُ فِي الْمَنَامِ جُعِلَ عَلَامَةً عَلَى أَنَّهُ يَرَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْيَقَظَةِ وَأَوْحَى اللَّهُ بِذَلِكَ إِلَيْهِ ﷺ.
وَقَالَ الْقَاضِي: وَقِيلَ مَعْنَاهُ سَيَرَى تَأْوِيلَ تِلْكَ الرُّؤْيَا فِي الْيَقَظَةِ وَصِحَّتَهَا، وَقِيلَ مَعْنَى الرُّؤْيَا فِي الْيَقَظَةِ أَنَّهُ سَيَرَاهُ فِي الْآخِرَةِ وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ فِي الْآخِرَةِ يَرَاهُ جَمِيعُ أُمَّتِهِ مَنْ رَآهُ فِي الْمَنَامِ وَمَنْ لَمْ يَرَهُ يَعْنِي فَلَا يَبْقَى لِخُصُوصِ رُؤْيَتِهِ فِي الْمَنَامِ مَزِيَّةٌ، وَأَجَابَ الْقَاضِي عِيَاضٌ بِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ رُؤْيَاهُ لَهُ فِي النَّوْمِ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي عُرِفَ بِهَا وَوُصِفَ عَلَيْهَا مُوجِبَةً لِتَكْرِمَتِهِ فِي الْآخِرَةِ وَأَنْ يَرَاهُ رُؤْيَةً خَاصَّةً مِنَ الْقُرْبِ مِنْهُ وَالشَّفَاعَةِ لَهُ بِعُلُوِّ الدَّرَجَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْخُصُوصِيَّاتِ، قَالَ: وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُعَاقِبَ اللَّهُ بَعْضَ الْمُذْنِبِينَ فِي الْقِيَامَةِ بِمَنْعِ رُؤْيَةِ نَبِيِّهِ ﷺ مُدَّةً.
وَحَمَلَهُ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ عَلَى مَحْمَلٍ آخَرَ فَذَكَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَوْ غَيْرِهِ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ ﷺ فِي النَّوْمِ فَبَقِيَ بَعْدَ أَنِ اسْتَيْقَظَ مُتَفَكِّرًا فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَدَخَلَ عَلَى بَعْضِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَعَلَّهَا خَالَتُهُ مَيْمُونَةُ، فَأَخْرَجَتْ لَهُ الْمِرْآةَ الَّتِي كَانَتْ لِلنَّبِيِّ ﷺ فَنَظَرَ فِيهَا فَرَأَى صُورَةَ النَّبِيِّ ﷺ وَلَمْ يَرَ صُورَةَ نَفْسِهِ، وَنُقِلَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّالِحِينَ أَنَّهُمْ رَأَوُا النَّبِيَّ ﷺ فِي الْمَنَامِ ثُمَّ رَأَوْهُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْيَقَظَةِ وَسَأَلُوهُ عَنْ أَشْيَاءَ كَانُوا مِنْهَا مُتَخَوِّفِينَ فَأَرْشَدَهُمْ إِلَى طَرِيقِ تَفْرِيجِهَا فَجَاءَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ.
قُلْتُ: وَهَذَا مُشْكِلٌ جِدًّا وَلَوْ حُمِلَ عَلَى ظَاهِرِهِ لَكَانَ هَؤُلَاءِ صَحَابَةً وَلَأَمْكَنَ بَقَاءُ الصُّحْبَةِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَيُعَكِّرُ عَلَيْهِ أَنَّ جَمْعًا جَمًّا رَأَوْهُ فِي الْمَنَامِ ثُمَّ لَمْ يَذْكُرْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ أَنَّهُ رَآهُ فِي الْيَقَظَةِ وَخَبَرُ الصَّادِقِ لَا يَتَخَلَّفُ.
وَقَدِ اشْتَدَّ إِنْكَارُ الْقُرْطُبِيِّ عَلَى مَنْ قَالَ مَنْ رَآهُ فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَأَى حَقِيقَتَهُ ثُمَّ يَرَاهَا كَذَلِكَ فِي الْيَقَظَةِ كَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا، وَقَدْ تَفَطَّنَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ لِهَذَا فَأَحَالَ بِمَا قَالَ عَلَى كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ فَإِنْ يَكُنْ كَذَلِكَ تَعَيَّنَ الْعُدُولُ عَنِ الْعُمُومِ فِي كُلِّ رَاءٍ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ عَامٌّ فِي أَهْلِ التَّوْفِيقِ وَأَمَّا غَيْرُهُمْ فَعَلَى الِاحْتِمَالِ، فَإِنَّ خَرْقَ الْعَادَةِ قَدْ يَقَعُ لِلزِّنْدِيقِ بِطَرِيقِ الْإِمْلَاءِ وَالْإِغْوَاءِ كَمَا يَقَعُ لِلصِّدِّيقِ بِطَرِيقِ الْكَرَامَةِ وَالْإِكْرَامِ، وَإِنَّمَا تَحْصُلُ التَّفْرِقَةُ بَيْنَهُمَا بِاتِّبَاعِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ انْتَهَى.
وَالْحَاصِلُ مِنَ الْأَجْوِبَةِ سِتَّةٌ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ عَلَى التَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ، وَدَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: فَكَأَنَّمَا رَآنِي فِي الْيَقَظَةِ.
ثَانِيهَا: أَنَّ مَعْنَاهَا سَيَرَى فِي الْيَقَظَةِ تَأْوِيلَهَا بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ أَوِ التَّعْبِيرِ.
ثَالِثُهَا: أَنَّهُ خَاصٌّ بِأَهْلِ عَصْرِهِ مِمَّنْ آمَنَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرَاهُ
رَابِعُهَا: أَنَّهُ يَرَاهُ فِي الْمِرْآةِ الَّتِي كَانَتْ لَهُ إِنْ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ، وَهَذَا مِنْ أَبْعَدِ الْمَحَامِلِ.
خَامِسُهَا: أَنَّهُ يَرَاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمَزِيدِ خُصُوصِيَّةٍ لَا مُطْلَقٌ مَنْ يَرَاهُ حِينَئِذٍ مِمَّنْ لَمْ يَرَهُ فِي الْمَنَامِ.
سَادِسُهَا: أَنَّهُ يَرَاهُ فِي الدُّنْيَا حَقِيقَةً وَيُخَاطِبُهُ، وَفِيهِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْإِشْكَالِ.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ الَّذِي يُرَى فِي الْمَنَامِ أَمْثِلَةٌ لِلْمَرْئِيَّاتِ لَا أَنْفُسُهَا، غَيْرَ أَنَّ تِلْكَ الْأَمْثِلَةَ تَارَةً تَقَعُ مُطَابِقَةً وَتَارَةً يَقَعُ مَعْنَاهَا، فَمِنَ الْأَوَّلِ رُؤْيَاهُ ﷺ عَائِشَةَ وَفِيهِ فَإِذَا هِيَ أَنْتِ فَأَخْبَرَ أَنَّهُ رَأَى فِي الْيَقَظَةِ مَا رَآهُ فِي نَوْمِهِ بِعَيْنِهِ وَمِنَ الثَّانِي رُؤْيَا الْبَقَرِ الَّتِي تُنْحَرُ وَالْمَقْصُودُ بِالثَّانِي التَّنْبِيهُ عَلَى مَعَانِي تِلْكَ الْأُمُورِ، وَمِنْ فَوَائِدِ رُؤْيَتِهِ ﷺ تَسْكِينُ شَوْقِ الرَّائِي لِكَوْنِهِ صَادِقًا فِي مَحَبَّتِهِ لِيَعْمَلَ عَلَى مُشَاهَدَتِهِ، وَإِلَى ذَلِكَ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: فَسَيَرَانِي فِي الْيَقَظَةِ أَيْ مَنْ رَآنِي رُؤْيَةَ مُعَظِّمٍ