أَشْعُرْ أَنَّ الرَّمْيَ قَبْلَ النَحْرِ فَنَحَرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ. وَقَالَ آخَرُ: لَمْ أَشْعُرْ أَنَّ النَّحْرَ قَبْلَ الْحَلْقِ فَحَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَنْحَرَ. وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ: كُنْتُ أَحْسَبُ أَنَّ كَذَا قَبْلَ كَذَا، وَقَدْ تَبَيَّنَ ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ يُونُسَ، وَزَادَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ: وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حَفْصَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ عِنْدَ مُسْلِمٍ: حَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ، وَقَالَ آخَرُ: أَفَضْتُ إِلَى الْبَيْتِ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ، وَفِي حَدِيثِ مَعْمَرٍ عِنْدَ أَحْمَدَ زِيَادَةُ الْحَلْقِ قَبْلَ الرَّمْيِ أَيْضًا، فَحَاصِلُ مَا فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو السُّؤَالُ عَنْ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ: الْحَلْقُ قَبْلَ الذَّبْحِ، وَالْحَلْقُ قَبْلَ الرَّمْيِ، وَالنَّحْرُ قَبْلَ الرَّمْيِ، وَالْإِفَاضَةُ قَبْلَ الرَّمْيِ، وَالْأُولَيَانِ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا كَمَا مَضَى، وَعِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا السُّؤَالُ عَنِ الْحَلْقِ قَبْلَ الرَّمْيِ، وَكَذَا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ عِنْدَ الطَّحَاوِيِّ، وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ عِنْدَ أَحْمَدَ السُّؤَالُ عَنِ الْإِفَاضَةِ قَبْلَ الْحَلْقِ، وَفِي حَدِيثِهِ عِنْدَ الطَّحَاوِيِّ السُّؤَالُ عَنِ الرَّمْيِ وَالْإِفَاضَةِ مَعًا قَبْلَ الْحَلْقِ، وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ الَّذِي عَلَّقَهُ الْمُصَنِّفُ فِيمَا مَضَى وَوَصَلَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ السُّؤَالُ عَنِ الْإِفَاضَةِ قَبْلَ الذَّبْحِ، وَفِي حَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ شَرِيكٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ السُّؤَالُ عَنِ السَّعْيِ قَبْلَ الطَّوَافِ.
قَوْلُهُ: (اذْبَحْ وَلَا حَرَجَ) أَيْ: لَا ضِيقَ عَلَيْكَ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي: بَابِ الذَّبْحِ قَبْلَ الْحَلْقِ تَقْرِيرٌ تَرْتِيبُهُ، وَذَلِكَ أَنَّ وَظَائِفَ يَوْمِ النَّحْرِ بِالِاتِّفَاقِ أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ: رَمْيُ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، ثُمَّ نَحْرُ الْهَدْيِ أَوْ ذَبْحُهُ، ثُمَّ الْحَلْقُ أَوِ التَّقْصِيرُ، ثُمَّ طَوَافُ الْإِفَاضَةِ. وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَتَى مِنًى فَأَتَى الْجَمْرَةَ فَرَمَاهَا، ثُمَّ أَتَى مَنْزِلَهُ بِمِنًى فَنَحَرَ، وَقَالَ لِلْحَالِقِ خُذْ. وَلِأَبِي دَاوُدَ: رَمَى ثُمَّ نَحَرَ ثُمَّ حَلَقَ. وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى مَطْلُوبِيَّةِ هَذَا التَّرْتِيبِ، إِلَّا أَنَّ ابْنَ الْجَهْمِ الْمَالِكِيَّ اسْتَثْنَى الْقَارِنَ، فَقَالَ: لَا يَحْلِقُ حَتَّى يَطُوفَ، كَأَنَّهُ لَاحَظَ أَنَّهُ فِي عَمَلِ الْعُمْرَةِ يَتَأَخَّرُ فِيهَا الْحَلْقُ عَنِ الطَّوَافِ، وَرَدَّ عَلَيْهِ النَّوَوِيُّ بِالْإِجْمَاعِ، وَنَازَعَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي ذَلِكَ. وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ تَقْدِيمِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ، فَأَجْمَعُوا عَلَى الْإِجْزَاءِ فِي ذَلِكَ كَمَا قَالَهُ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي، إِلَّا أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الدَّمِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْهُ أَنَّ مَنْ قَدَّمَ شَيْئًا عَلَى شَيْءٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَقَتَادَةُ، وَالْحَسَنُ، وَالنَّخَعِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. انْتَهَى. وَفِي نِسْبَةِ ذَلِكَ إِلَى النَّخَعِيِّ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ نَظَرٌ، فَإِنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ بِذَلِكَ إِلَّا فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ كَمَا سَيَأْتِي.
قَالَ: وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَجُمْهُورُ السَّلَفِ وَالْعُلَمَاءُ وَفُقَهَاءُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ إِلَى الْجَوَازِ وَعَدَمِ وُجُوبِ الدَّمِ؛ لِقَوْلِهِ لِلسَّائِلِ: لَا حَرَجَ، فَهُوَ ظَاهِرٌ فِي رَفْعِ الْإِثْمِ وَالْفِدْيَةِ مَعًا؛ لِأَنَّ اسْمَ الضِّيقِ يَشْمَلُهُمَا. قَالَ الطَّحَاوِيُّ: ظَاهِرُ الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى التَّوْسِعَةِ فِي تَقْدِيمِ بَعْضِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ عَلَى بَعْضٍ، قَالَ: إِلَّا أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ لَا حَرَجَ أَيْ لَا إِثْمَ فِي ذَلِكَ الْفِعْلِ، وَهُوَ كَذَلِكَ لِمَنْ كَانَ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا، وَأَمَّا مَنْ تَعَمَّدَ الْمُخَالَفَةَ فَتَجِبُ عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ وُجُوبَ الْفِدْيَةِ يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ، وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَبَيَّنَهُ ﷺ حِينَئِذٍ لِأَنَّهُ وَقْتَ الْحَاجَةِ وَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: لَمْ يُسْقِطِ النَّبِيُّ ﷺ الْحَرَجَ إِلَّا وَقَدْ أَجْزَأَ الْفِعْلَ، إِذْ لَوْ لَمْ يُجْزِئْ لَأَمَرَهُ بِالْإِعَادَةِ لِأَنَّ الْجَهْلَ وَالنِّسْيَانَ لَا يَضَعَانِ عَنِ الْمَرْءِ الْحُكْمَ الَّذِي يَلْزَمُهُ فِي الْحَجِّ، كَمَا لَوْ تَرَكَ الرَّمْيَ وَنَحْوَهُ فَإِنَّهُ لَا يَأْثَمْ بِتَرْكِهِ جَاهِلًا أَوْ نَاسِيًا لَكِنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ. وَالْعَجَبُ مِمَّنْ يَحْمِلُ قَوْلَهُ وَلَا حَرَجَ عَلَى نَفْيِ الْإِثْمِ فَقَطْ ثُمَّ يَخُصُّ ذَلِكَ بِبَعْضِ الْأُمُورِ دُونَ بَعْضٍ، فَإِنْ كَانَ التَّرْتِيبُ وَاجِبًا يَجِبُ بِتَرْكِهِ دَمٌ فَلْيَكُنْ فِي الْجَمِيعِ وَإِلَّا فَمَا وَجْهُ تَخْصِيصِ بَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ مَعَ تَعْمِيمِ الشَّارِعِ الْجَمِيعَ بِنَفْيِ الْحَرَجِ.
وَأَمَّا احْتِجَاجُ النَّخَعِيِّ وَمَنْ تَبِعَهُ فِي تَقْدِيمِ الْحَلْقِ عَلَى غَيْرِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ﴾ قَالَ: فَمَنْ حَلَقَ قَبْلَ الذَّبْحِ أَهْرَاقَ دَمًا عَنْهُ، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، فَقَدْ أُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِبُلُوغِ مَحِلِّهِ وُصُولُهُ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يَحِلُّ ذَبْحُهُ فِيهِ وَقَدْ حَصَلَ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute